سورة البقرة - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


ولما ثبت بعجزهم عن المعارضة أن هذا الكلام كلامه سبحانه ثبت أن ما فيه من الأمثال أقواله فهددهم في هذه السورة المدنية على العناد وتلاه بالآية التي أخبر فيها بأن ثمار الدنيا وأزواجها وإن شابهت ما في الجنة بالاسم وبعض الشكل فقد باينته بالطعوم والطهارة وما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى فاضمحلت نسبتها إليها، وكان في ختم الآية بخالدون إشارة إلى أن الأمثال التي هي أحسن كلام الناس وإن شابهت أمثاله سبحانه في الاسم ودوام الذكر فلا نسبة لها إليها لجهات لا تخفى على المنصف فلم يبق إلا طعنهم بأنها لكونها بالأشياء الحقيرة لا تليق بكبريائه فبين حسنها ووجوب الاعتداد بها وإنعام النظر فيها بالإشارة بعدم الاستحياء من ضربها لكونها حقاً إلى أن الأشياء كلها وإن عظمت حقيرة بالنسبة إلى جلاله وعظمته وكماله، فلو ترك التمثيل بها لذلك لانسد ذلك الباب الذي هو من أعجب العجاب فقال تعالى على طريق الاستنتاج من المقدمات المسلَّمات وأكد سبحانه دفعاً لظن أنه يترك لما لبّسوا به الأمثال التي هي أكشف شيء للأشكال وأجلى في جميع الأحوال. وقال الحرالي: لما كانت الدعوة تحوج مع المتوقف فيها والآبي لها إلى تقريب للفهم بضرب الأمثال وكانت هذه الدعوة جامعة الدعوات وصل بها هذه الآية الجامعة لإقامة الحجة في ضرب الأمثال وأن ذلك من الحق سبحانه {والله لا يستحيي من الحق} [الأحزاب: 53] وليختم ذكر ما تضمنه صدر السورة من الحروف التي أنزل عليها القرآن بسابعها الذي هو حرف المثل، وبين تعالى أن مقدار الحكمة الشاهد للممثل في البعوضة وفيما هو أظهر للحس وآخذ في العلم. وإنما يجب الالتفات للقدر لا للمقدار ولوقع المثل على ممثله قل أو جل دنا أو علا فتنزه تعالى عما يجده الخلق عندما ينشأ من بواطنهم وهمهم أن يظهروا أمراً فيتوهمون فيه نقصاً فيرجعهم ذلك عن إظهاره قولاً أو فعلاً- انتهى. فقال تعالى: {إن الله} أي المحيط بكل شيء جلالاً وعظمة وكمالا {لا يستحيي} أي لا يفعل ما يفعله المستحي من ترك ما يستحي منه.
والحياء قال الحرالي انقباض النفس عن عادة انبساطها في ظاهر البدن لمواجهة ما تراه نقصاً حيث يتعذر عليها الفرار بالبدن {أن} كلمة مدلولها ممن أجريت عليه حقيقة باطن من ذاته وعلمه يتصل بها ما يظهرها، وسيبويه رحمه الله يراها اسماً، وعامة النحاة لانعجام معناها عليهم يرونها حرفاً {يضرب} من ضرب المثل وهو وقع المثل على الممثل، لأن أصل الضرب وقع شيء على شيء، والمعنى أن يوجد الضرب متجدداً مستمراً وهذا لا يساويه أن يقال من ضربه مثلاً، فإنه يصدق لمثل واحد سابق أو لاحق، وتحقيقه أن المصدر لا يقع إلا على كمال الحقيقة من غير نظر إلى زمان ولا غيره وأما بفعل فإنه يفهم إيقاع الحقيقة من غير نظر أيضاً إلى زمان، وبفهمها مع النظر إلى الزمان مع التجدد والاستمرار ومع كمال الحقيقة وقبل كمالها عند الشروع فيها وإلى هذا القيد الأخير ينظر قول الحرالي: إن الحياء من أن يضرب المثل استحياء من وقعه في الباطن، والحياء من ضربه المثل استحياء من إظهاره بالقول، فنفى الأصل الأبلغ الذي بنفيه يكون نفي الضرب أحق، فليراجع هذا المعنى مع تكرار كلمة {إن} فإنها كثيرة الدور في القرآن جليلة قدر المعنى في مواقعها، وإنما يجري على ترك الالتفات إلى موقع معناها ما يقوله النحاة في معنى التقريب إنّ أنّ والفعل في معنى المصدر، والواجب في الإعراب والبيان الإفصاح عن ترتب معانيهما، وعند هذا يجب أن تكون أن اسماً والفعل صلتها نحو من وما {مثلاً ما} مثل أمر ظاهر للحس ونحوه، يعتبر به أمر خفي يطابقه فينفهم معناه باعتباره و{ما} في نحو هذا الموقع لمعنى الاستغراق، فهي هنا لشمول الأدنى والأعلى من الأمثال- انتهى.
ثم بين ذلك بقوله: {بعوضة}.
وقال الحرالي: ولما كان ضرب المثل متعلقاً بمثل وممثل كان الضرب واقعاً عليهما، فكان لذلك متعدياً إلى مفعولين: مثلاً ما وبعوضة، والبعوض جنس معروف من أدنى الحيوان الطائر مقداراً وفيه استقلال وتمام خلقة، يشعر به معنى البعض الذي منه لفظه، لأن البعض يوجد فيه جميع أجزاء الكل فهو بذلك كل، {فما فوقها} أي من معنى يكون أظهر منها، والفاء تدل على ارتباط ما إما تعقيب واتصال أو تسبيب، ففيه هنا إعلام بأقرب ما يليه على الاتصال والتدريج إلى أنهى ما يكون- انتهى. والمعنى أن ذلك إن اعتبر بالنسبة إليه سبحانه كان هو وأنتم وغيركم بمنزلة واحدة في الحقارة، وإن اعتبر بالنسبة إليكم كان الفريقان بمنزلة واحدة في أنه خلق حقير ضعيف صغير من تراب، وأما شرف بعضه على بعض فإنما كان بتشريف الله له ولو شاء لعكس الحال.
ثم ذكر شأن قسمي المؤمنين والكافرين بقسمي كل منهم في قبول أمثاله فقال مؤكداً بالتقسيم لأن حال كل من القسمين حال المنكر لما وقع للآخر: {فأما}، قال الحرالي: كأنها مركبة من إن دالة على باطن ذات وما دالة على ظاهر مبهم، يؤتى به للتقسيم- انتهى. {الذين آمنوا} أي بما ذكرنا أول السورة، ولما تضمن أما معنى الشرط كما فسره سيبويه بمهما يكن من شيء أجيب بالفاء في قوله: {فيعلمون أنه} أي ضرب المثل {الحق} كائناً {من ربهم} أي المحسن إليهم بجميع أنواع الإحسان، وأنه ما أراد بهم إلا تربيتهم بالإحسان بضربه على عوائد فضله، وأما أمثال غيره فإن لم يكن فيها نوع من الباطل فلا بد فيها من ضرب من التسمُّح تكون به غير جديرة باسم الحق ولا عريقة فيه.
قال الحرالي: لما كان الذين آمنوا ممن بادر فأجاب وكان ضرب المثل تأكيد دعوة وموعظة لمن حصل منه توقف حصل للذين آمنوا استبصار بنور الإيمان في ضرب المثل، فصاروا عالمين بموقع الحق فيه، وكما استبصر فيه الذين آمنوا استغلق معناه على الذين كفروا وجهلوه فاستفهموا عنه استفهام إنكار لموقعه- انتهى. فلذا قال {وأما الذين كفروا} أي المجاهرون منهم والمساترون {فيقولون} أي قولاً مستمراً {ماذا} أي الذي {أراد الله} الذي هو أجل جليل {بهذا} الحقير أي بضربه له {مثلاً} أي على جهة المثلية استهزاء وجهلاً وعناداً وجفاءً؛ ثم وصل بذلك ذكر ثمرته عند الفريقين جواباً لسؤال من سأل منهم فقال: {يضل به كثيراً} أي منهم بأن لا يفهمهم المراد منه فيظنون بذلك الظنون. وقال الحرالي: وكان إضلالاً لهم، لأن في ضرب المثل بما يسبق لهم استزراؤه بنحو الذباب والعنكبوت الذي استزروا ضرب المثل به تطريق لهم إلى الجهالة فكان ذلك إضلالاً، وقدم الجواب بالإضلال لأنه مستحق المستفهم، والإضلال التطريق للخروج عن الطريق الجادة المنجية- انتهى.
{ويهدي به كثيراً} أي ببركة اعتقادهم الخير وتسليمهم له الأمر يهديهم ربهم بإيمانهم فيفهمهم المراد منه ويشرح صدورهم لما فيه من المعارف فيزيدهم به إيماناً وطمأنينة وإيقاناً، والمهديون كثير في الواقع قليل بالنسبة إلى الضالين. ولما كان المقام للترهيب كما مضى في قوله: {فاتقوا النار} اكتفى في المهتدين بما سبق من بشارتهم وقال في ذم القسم الآخر وتحذيره: {وما يضل به إلا}، قال الحرالي: كأنها مركبة من إن ولا مدلولها نفي حقيقة ذات عن حكم ما قبلها- انتهى. {الفاسقين} أي الخارجين عن العدل والخير. وقال الحرالي: الذين خرجوا عن إحاطة الاستبصار وجهات تلقي الفطرة والعهد الموثق وحسن الرعاية، لأن الفسق خروج عن محيط كالكمام للثمرة والجحر للفأرة- انتهى.
ثم بينهم بقوله: {الذين ينقضون} من النقض وهو حل أجزاء الشيء بعضها عن بعض {عهد الله} أي الذي أخذه عليهم على ما له من العظمة بما ركز فيهم من العقول ونصب لهم من الدلائل والعهد التقدم في الأمر- قاله الحرالي.
ولما كان المراد عهداً خاصاً وهو إرسال الرسل عليهم السلام أثبت الخبر فقال: {من بعد ميثاقه} أي بدلالة الكتب على ألسنة الرسل مع تقريبه من الفطر وتسهيله للنظر، والوثاق شدة الربط وقوة ما به يربط- قاله الحرالي {ويقطعون ما أمر الله} أي الملك الأعظم، ولما كان البيان بعد الإجمال أروع للنفس قال: {به} ثم فسره بقوله: {أن يوصل} أي من الخيرات، قال الحرالي: والقطع الإبانة في الشيء الواحد والوصل مصيراً لتكملة مع المكمل شيئاً واحداً كالذي يشاهد في إيصال الماء ونحوه وهو إعلام بأنهم يقطعون متصل الفطرة ونحوها فيسقطون عن مستواها وقد أمر الله أن يوصل بمزيد علم يتصل بها حتى يصل نشؤها إلى أتم ما تنتهي إليه، وكذلك حالهم في كل أمر يجب أن يوصل فيأتون فيما يطلب فيه الأمر الأكمل بضده الأنقص- انتهى.
{ويفسدون} ولما قصر الفعل ليكون أعم قال: {في الأرض} أي بالنكوب عن طريق الحق. قال الحرالي: ولما كانت الأرض موضوعة للنشئ منها وفيها وموضع ظهور عامة الصور الرابية اللازمة الجسمية ومحل تنشؤ صورة النفس بالأعمال والأخلاق وكان الإفساد نقض الصور كما قال تعالى: {وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد} [البقرة: 205] كان فعلهم فيها من نحو فعلهم في وضع الضد السيء موضع ضده الأكمل والتقصير بما شأنه التكملة فكان إفساداً لذلك- انتهى.
ولما كان كأنه قيل: إن فعل هؤلاء لقبيح جداً فما حالهم؟ قال: {أولئك} أي الأباعد من الصواب {هم الخاسرون} أي الذين قصروا الخسران عليهم، والخسارة النقص فيما شأنه النماء- قاله الحرالي، ومن المعلوم أن هذا نتيجة ما مضى من أوصافهم. قال الحرالي: ولما كان الخاسر من كان عنده رأس مال مهيأ للنماء والزيادة فنقصه عن سوء تدبير، وكان أمرهم في الأحوال الثلاث المنسوقة حال من نقص ما شأنه النماء كانوا بذلك خاسرين فلذلك انختمت الآية بهذا؛ وأشير إليهم بأداة البعد لوضعهم في أبعد المواضع عن محل الخير انتهى.
ولما دعا سبحانه إلى التوحيد ودل عليه وأنذر من أعرض وبشر من أقبل وذكر حال الفريقين في قبول الأدلة التي زبدتها الأمثال وإبائها التفت إلى تبكيت المدبر لعله يستبصر، واستمر سبحانه في دلائل التوحيد حتى قامت قيام الأعلام ونفذت نفوذ السهام حتى تخللت صميم العظام لقد ظهرت فلا تخفى على أحد إلا على أكمه لا يبصر القمر في أسلوب مشيراً إلى البعث منبه على التخلص من الخسارة، وما أبدع افتتاح ذلك عقب الخاسرين بقوله على طريق التفات المغضب المستعطف المعجب! {كيف} وقال الحرالي: لما تقدمت الدعوة للناس فأجاب مبادر وتوقف متوقف فضربت الأمثال فاستدرك وآمن وتمادى متماد على كفره صرف وجه الخطاب عن المواجهة من الحق تعالى وأجري على لسان لؤم وإنكار، فجاء هذا الاستفهام لإيضاح انقطاع العذر في التمادي على الكفر، وجاء بلفظ كيف لقصور نظرهم على الكيفيات المحسوسة فإن كيف كلمة مدلولها استفهام عن عموم الأحوال التي شأنها أن تدرك بالحواس، فكأنه يقال لهم بمدرك: أي حاسة تماديتم على الكفر بالله؟ على ما تقتضيه صيغة الفعل الدائم في {تكفرون} انتهى.
وقال: {بالله} أي مع ظهور عظمته وعلوه، والإنكار الموجب لنفي المنكر، كما في قولك: أتطير بغير جناح، يفيد أنه كان ينبغي أن يكون الكفر في حيز الممتنع لما على بطلانه وصحة التوحيد من الأدلة التي تفوت الحصر، وإنكار حاله إنكار لوجوده على طريق البرهان، لأنه إذا امتنع أن يوجد في حال من الأحوال امتنع وجوده مطلقاً.
قال الحرالي: وأعلى هذا الخطاب فأبعدوا عن تيسيره بذكر اسم الله لما لم يكونوا من أهل قبول التنزل بدعوى اسم الربوبية حيث لم يكونوا ممن أجاب مبادراً ولا تالياً حسبما تشعر به آية تحقيق ضرب الأمثال. ولما جرى هذا الخطاب بذكر اسم الله أعقب بذكر الأفعال الإلهية التي هي غايات من الموت والإحياء المعروف اللذين لا ينكر الكفار أمرهما- انتهى. {وكنتم} أي والحال أنكم تعلمون أنكم كنتم {أمواتاً} بل مواتاً تراباً ثم نطفاً. قال الحرالي: من الموت وهو حال خفاء وغيب يضاف إلى ظاهر عالم يتأخر عنه أو يتقدمه تفقد فيه خواص ذلك الظهور الظاهرة- انتهى. وإطلاق الموت على ما لم تحله حياة مجاز، وسرّ التعبير به التنبيه على أنه أكثر ما تكون الإعادة التي ينكرونها مثل الابتداء، فلا وجه أصلاً لإنكارها مع الاعتراف بالابتداء. فكيف والإعادة دونه {فأحياكم} فصرتم ذوي حس وبطش وعقل. قال الحرالي: وجاء بالفاء المشعرة بالتعقيب لما لم يكن لهم معرفة بمهل الموت الذي قبل حياة الولادة، والحياء تكامل في ذات ما أدناه حياة النبات بالنمو والاهتزاز مع انغراسه إلى حياة ما يدب بحركته وحسه إلى غاية حياة الإنسان في تصرفه وتصريفه إلى ما وراء ذلك من التكامل- انتهى. {ثم يميتكم} بعد مد الأعمار والتقليب في الأطوار فإذا أنتم أجساد كالفخار كأنه لم تحل بها حياة ساعة قط، وبدلتم بعد الأنس بكم الوحشة، وإثر محبة القرب منكم النفرة؛ وتمثيل الموت بما نعهده أن طلب الملك كما أنه يحصل به من الروع ما يكاد يتلف وربما أتلف كان طلب ملك الملوك موجباً للموت. قال الحرالي: وهذه الأحوال الثلاثة أي الموت المعبر به عن العدم ثم الحياة ثم الموت معروفة لهم لا يمكنهم إنكارها، وإذا صح منهم الإقرار بحياة موت لزمهم الإقرار بحياة موت آخر لوجوب الحكم بصحة وجود ما قد سبق مثله، كما قال تعالى: {أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم} [يس: 81] ولَدُن ذلك من العلم أن الموت والحياة مزدوجان متضايفان، وإذا استوفى الموت الأول إحياؤه فلا بد من استيفاء الموت الثاني إحياؤه أيضاً، لأنه لولا استقبال الحياة لما كان موتاً بل بُطلاً وفقداً واضمحلالاً، لأن حقيقة الموت حال غيب بين يديه ظهور، والحياة نهاية ثابتة، والموت مبدأ غيب زائل، فجنس الموت كله متقض ونهاية، والحياة ثابتة دائمة؛ ولذلك ورد ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في أن الموت يُذبح، إعلام بانقضاء جنسه وثبات الحياة، ولذلك قدم في الذكر وأعقب بالحياة حيث استغرقتهما كلمة (ال) في قوله: {خلق الموت والحياة} [الملك: 2] وثبت الخطاب على إقرار الحياة والكمال، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم في قوله: «نعيم الجنة لا آخر له» فوجب بظاهر ما أحسه الكفار وباطن ما اقتضاه هذا النحو من العلم دونه انتشار حياة ثانية بعد ميتة الدنيا- انتهى.
ولما كان على البعث والحشر من الأدلة ما جعلهما كالمحسوسين عدهما في حيز المعلوم لهم كالإحياء الأول والموت فقال: {ثم يحييكم} فينشركم بعد طيكم ويبعثكم بعد حبسكم في البرزخ، فتكونون كما كنتم أول مرة ذوي قدرة على الانتشار بتلك القدرة التي ابتدأكم بها وأماتكم، وهذا لا ينفي أن يكون لهم في البرزخ إحساس بدون هذه الهيئة الكاملة، {ثم إليه ترجعون} فيحشركم بعد طول الوقوف للجزاء من الثواب والعقاب؛ وفي هذا كما قال الحرالي: إعلام بأنهم إن لم يرجعوا إلى الله سبحانه بداعي العلم في الدنيا فبعد مهل من الإحياء الثاني يرجعون إليه قهراً حيث يشاهدون انقطاع أسبابهم ممن تعلقوا به ويتبرأ منهم ما عبدوه من دون الله، وإنما جاء هذا المهل بعد البعث لما يبقى لهم من الطمع في شركائهم حيث يدعونهم فلم يستجيبوا لهم، فحينئذ يضطرهم انقطاع أسبابهم إلى الرجوع إلى الله فيرجعون قسراً وسوقاً فحينئذ يجزيهم بما كسبوا في دنياهم، كما قال تعالى في خطاب يعم كافة أهل الجزاء {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} [البقرة: 281] وهذا آخر خطاب الإقبال عليهم من دعوة الله لهم ولسان النكير عليهم، ولذلك كانت آية: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] آخر آية أنزلت في القرآن، لأنها نهاية ليس وراءه قول يعم أهل الجزاء؛ والرجع عود الشيء عند انتهاء غايته إلى مبدئها- انتهى.
ولما أجمل سبحانه في أول هذه الآية أول أمرهم وأوسطه وآخره على الوجه الذي تقدم أنه منبه على أن الكفر ينبغي أن يكون من قبيل الممتنع لما عليه من باهر الأدلة شرع يفصله على وجه داع لهم إلى جنابه بالامتنان بأنواع الإحسان بأمر أعلى في إفادة المقصود مما قبله على عادة القرآن في الترقي من العالي إلى الأعلى فساق سبحانه ابتداء الخلق الذي هو من أعظم الأدلة على وحدانيته مساق الإنعام على عباده بما فيه من منافعهم ليكون داعياً إلى توحيده من وجهين: كونه دالاً على عظمة مؤثرة وكمال قدرته، وكونه إحساناً إلى عباده ولطفاً بهم، وقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها فقال: {هو}، قال الحرالي: وهي كلمة مدلولها العلي غيب الإلهية القائم بكل شيء الذي لا يظهر لشيء، فذاته أبداً غيب، وظاهره الأسماء المظهرة من علو إحاطة اسم الله إلى تنزل اسم الملك، فما بينهما من الأسماء المظهرة، ثم قال: لما انتهى الخطاب بذكر إرجاعهم إلى الله وكان هذا خطاباً خاصاً مع المتمادي على كفره اتبع عند إعراضه وإدباره بهذا الحتم تهديداً رمى به بين أكتافهم وتسبيباً نيط بهم ومُدّ لهم كالمرخى له في السبب الذي يراد أن يجذب به، إما بأن يتداركه لطف فيرجع عليه طوعاً، أو يراد به قسراً عند انتهاء مدى إدباره، وانتظم به ختم آية الدعوة بنحو من ابتدائها، إلا أن هذه على نهاية الاقتطاع بين طرفيها وتلك على أظهر الاتساق؛ فأبعدوا في هذه كل البعد بإسناد الأمر إلى اسم هو الذي هو غيب اسم الله وأسند إليه خلق ما خلق لهم في الأرض الذي هو أظهر شيء للحس- انتهى.
{الذي خلق لكم} ديناً ودنيا لطفاً بكم {ما في الأرض} أي بعد أن سواهن سبعاً، قال الحرالي: وقوله: {جميعاً} إعلام بأن حاجة الإنسان لا تقوم بشيء دون شيء وإنما تقوم بكلية ما في الأرض حتى لو بطل منها شيء تداعى سائرها- انتهى. والآية دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة، فلا يمنع شيء إلا بدليل.
ولما كانت السماء أشرف من جهة العلو الذي لا يرام، والجوهر البالغ في الأحكام، والزينة البديعة النظام، المبنية على المصالح الجسام، وكثرة المنافع والأعلام، عبر في أمرها بثم فقال: {ثم استوى إلى السماء} أي وشرف على ذلك جهة العلو بنفس الجهة والحسن والطهارة وكثرة المنافع، ثم علق إرادته ومشيئته بتسويتها من غير أدنى عدول ونظر إلى غيرها، وفخم أمرها بالإبهام ثم التفسير، والإفراد الصالح لجهة العلو تنبيهاً على الشرف، وللجنس الصالح للكثرة، ولذلك أعاد الضمير جمعاً، فكان خلق الأرض وتهيئتها لما يراد منها قبل خلق السماء، ودحوها بعد خلق السماء؛ على أن ثم للتعظيم لا للترتيب فلا إشكال، وتقديم الأرض هنا لأنها أدل لشدة الملابسة والمباشرة. وقال الحرالي: أعلى الخطاب بذكر الاستواء إلى السماء الذي هو موضع التخوف لهم لنزول المخوفات منه عليهم فقيل لهم: هذا المحل الذي تخافون منه هو استوى إليه، ومجرى لفظ الاستواء في الرتبة والمكانة أحق بمعناه من موقعه في المكان والشهادة؛ وبالجملة فالأحق بمجرى الكلِم وقوعها نبأ عن الأول الحق، ثم وقوعها نبأ عما في أمره وملكوته، ثم وقوعها نبأ عما في ملكه وإشهاده؛ فلذلك حقيقة اللفظ لا تصلح أن تختص بالمحسوسات البادية في الملك دون الحقائق التي من ورائها من عالم الملكوت، وما به ظهر الملك والملكوت من نبأ الله عن نفسه من الاستواء ونحوه في نبأ الله عن نفسه أحق حقيقة، ثم النبأ به عن الروح مثلاً واستوائها على الجسم ثم على الرأس مثلاً واستوائه على الجثة فليس تستحق الظواهر حقائق الألفاظ على بواطنها بل كانت البواطن أحق باستحقاق الألفاظ؛ وبذلك يندفع كثير من لبس الخطاب على المقتصرين بحقائق الألفاظ على محسوساتهم {فسوَّاهُنَّ} التسوية إعطاء أجزاء الشيء حظه لكمال صورة ذلك الشيء {سبع سماوات} أعطى لكل واحدة منهن حظها {وأوحى في كل سماء أمرها} [فصلت: 12] انتهى. وخلق جميع ما فيها لكم، فالآية من الاحتباك؛ حذف أولاً كون الأراضي سبعاً لدلالة الثاني عليه، وثانياً كون ما في السماء لنا لدلالة الأول عليه؛ وهو فن عزيز نفيس وقد جمعت فيه كتاباً حسناً ذكرت فيه تعريفه ومأخذه من اللغة وما حضرني من أمثلته من الكتاب العزيز وكلام الفقهاء وسميته: الإدراك لفن الاحتباك.
ولما كان الخلق على هذه الكيفية دالاً بالبديهة على أتم قدرة لصانعه وكان العلم بأن مبنى ذلك على العلم محتاجاً إلى تأمل اغتنى في مقطع الآية بقوله: {وهو بكل شيء عليم} أي فهو على كل شيء قدير. ولما ذكر الحياة والموت المشاهدين تنبيهاً على القدرة على ما اتبعهما به من البعث ثم دل على ذلك أيضاً بخلق هذا الكون كله على هذا النظام البديع وختم ذلك بصفة العلم ذكر ابتداء خلق هذا النوع البشري المودع من صفة العلم ما ظهر به فضله بقوله تعالى عطفاً على قوله: {اعبدوا ربكم} وبياناً لقوله: {رب العالمين} [الفاتحة: 2] إذ من البدءة تعلم العودة لمن تدبر، أو يكن عطفاً على ما تقديره: اذكر هذا لهم، وذلك أنه سبحانه لما خاطبهم بهذا الاستفهام الذي من معانيه الإنكار ذاكراً الاسم الأعظم الذي هو أعلى الأسماء وأبطنها غيباً والضمير الذي {هو} أبطن منه، وأتبعه بعض ما هم له منكرون أو به جاهلون، وأشار بقوله: {لكم} مثبتة فيما هو ظاهر عندهم ومحذوفة مما هو خفي عنهم، كما نبه عليه في الاحتباك إلى أنه لم يخلق هذا النوع البشري للفناء بل للبقاء بما أبان عن أنه إنما خلق جميع ما في هذه الأكوان لأجلهم، فالبعض رزق لهم والبعض أسباب له، والبعض أسجدهم لأبيهم وهم في صلبه ووكلهم بهم في حفظ أعمالهم وقسم أرزاقهم ونفخ أرواحهم وغير ذلك من تربيتهم وإصلاحهم؛ لم يكونوا أهلاً لفهم هذا الخطاب حق فهمه تلقياً عن الله لعلوه سبحانه وعلو هذا الخطاب بالأسماء الباطنة وما نظم بها من المعاني اللائقة بها علواً وغيباً فأعلم سبحانه بعطف {إذ} على غير ظاهر أنه معطوف على نحو: اذكر لهم أيها الرسول هذا، لأنه لا يفهمه حق فهمه عنا سواك، وهم إلى الفهم عنك أقرب {وإذ} أي واذكر ما اتفق إذ، وحذف هذا المعطوف عليه لاحتمال المأمور بذكره الإنكار والسياق لإيراد الرفق والبشارة على لسانه صلى الله عليه وسلم استعطافاً لهم إليه وتحبيباً فيه وفي حذفه أيضاً والدلالة عليها بالعاطف حث على تدبر ما قبله تنبيهاً على جلالة مقداره ودقة أسراره، ولما علمت الإشارة لكن لأهل البصارة أتبعها قصة آدم عليه السلام دليلاً ظاهراً ومثالاً بيناً لخلاصة ما أريد بهذه الجمل مما نبه عليه بالعاطف من أن النوع الآدمي هو المقصود بالذات من هذا الوجود، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يترك بعد موته من غير إحياء يرد به إلى دار لا يكون في شيء من أمورها من أحد نوع من الخلل وتكون الحكمة فيها ظاهرة جداً لا خفاء بها أصلاً.
فيظهر الحمد أتم ظهور؛ ولذلك ذكر تفضيل آدم عليه السلام بالعلم، ثم بإسجاد الملائكة له، ثم بإسكانه الجنة، ثم بتلقي أسباب التوبة عند صدور الهفوة؛ وقد روى البيهقي في أواخر الدلائل والحارث بن أبي أسامة والحاكم في المستدرك عن بشر بن شغاف عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: «إن أكرم خليقة الله على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، قلت: رحمك الله! فأين الملائكة؟ فنظر أليّ وضحك فقال: يا ابن أخي! وهل تدري ما الملائكة؟ إنما الملائكة خلق كخلق الأرض وخلق السماء وخلق السحاب وخلق الجبال وخلق الرياح وسائر الخلائق التي لا تعصي الله شيئاً، وإن أكرم الخلائق على الله أبو القاسم صلى الله عليه وسلم» وقال البيهقي: إنه ليس بموقوف بل حكمه الرفع. وقال الحرالي: لما جعل الله تعالى نور العقل هادياً لآيات ما ظهر في الكون وكان من الخلق مهتد به ومعرض عنه بعث الله النبيين مبشرين لمن اهتدى بنور العقل بمقتضى الآيات المحسوسة وتلك هي الحنيفية والملة الإبراهيمية، ومنذرين لمن أعرض عن ذلك وشغلته شهوات دنياه، فترتب لذلك خطاب الكتاب بين ما يخاطب به الأعلين المهتدين وبين ما يخاطب به الأدنين المعرضين، وكذلك تفاوت الخطاب بين ما يخاطب به الأئمة المهتدين والمؤتّمون بهم، فكان أعلى الخطاب ما يقبل على إمام الأئمة وسيد السادات وأحظى خلق الله عند الله محمد صلى الله عليه وسلم. فكان أول الخطاب ب الم ذلك الكتاب إقبالاً عليه وإيتاء له من الذكر الأول كما قال عليه السلام: «أوتيت البقرة وآل عمران من الذكر الأول» وهو أول مكتوب حين كان الله ولا شيء معه، وكتب في الذكر الأول كل شيء، فخاطبه الله عز وجل بما في الذكر الأول وأنزله قرآناً ليكون آخر المنزل الخاتم هو أول الذكر السابق ليكون الآخر الأول في كتابه كما هو في ذاته، فمن حيث كان الخطاب الأول من أعلى خطاب الله لمحمد صلى الله عليه وسلم انتظم به ما هو أدنى خطاب من آيات الدعوة تنبيهاً لمن أعرض عن الاستضاءة بنور العقل لما بين الطرفين من تناسب التقابل؛ ثم عاد وجه الخطاب إليه صلى الله عليه وسلم بما هو إعلام بغائب الماضي عن كائن الوقت من أمر ابتداء مفاوضة الحق ملائكته في خلق آدم ليكون ذلك ترغيباً للمبشرين في علو الرتب إلى التكامل كما كانت آية الدعوة تنبيهاً للمعرضين ليعودوا إلى الإقبال، وخصوص الإنزال إنما هو في الإنباء بغيب الكون من ملكوته وغائب أيام الله الماضية ومنتظر أيام الله الآتية، فذلك الذي يخص المهتدين بنور العقل ليترقوا من حد الإيمان إلى رتبة اليقين، وإنما يرد التنبيه والتنزيل بما في نور العقل هدايته من أجل المعرضين؛ فكان ما شمله التنزيل بذلك أربعة أمور: أحدها التنبيه على الآيات بمقتضى أسماء الله من اسمه الملك إلى اسمه الرحمن الرحيم إلى اسمه رب العالمين إلى اسمه العظيم الذي هو الله، والثاني التنبيه على غائب المنتظر الذي الخلق صائرون إليه ترغيباً وترهيباً، والثالث الإعلام بماضي أمر الله جمعاً للهمم للجد والانكماش في عبادة الله، والرابع التبصير ببواطن كائن الوقت الذي في ظاهره إعلامه؛ فكان أول التنزيل في هذه السورة أمر أول يوم من ذكر الله وهو كتب مقتضى العلم والقدرة في قسمه تعالى عباده بين مؤمن وكافر ومنافق، ثم أنزل الخطاب إلى آية الدعوة من وراء حجاب الستر بسابق التقدير فعم به الناس ونبههم على آيات ربوبيته وحياً أوحاه الله منه إليه، ثم عطف على ذلك إعلاماً لابتداء المفاوضة في خلق آدم عطفاً على ذلك الذي يعطيه إفهام هذا الإفصاح، فلذلك قال تعالى: {وإذ} فإن الواو حرف يجمع ما بعده مع شيء قبله إفصاحاً في اللفظ أو إفهاماً في المعنى، وإنما يقع ذلك لمن يعلو خطابه ولا يرتاب في إبلاغه.
وإذ اسم مبهم لما مضى من الأمر والوقت، {قال} من القول وهو إبداء صور الكلم نظماً بمنزلة ائتلاف الصور المحسوسة جمعاً، فالقول مشهود القلب بواسطة الأذن، كما أن المحسوس مشهود القلب بواسطة العين وغيره.
ثم قال: لما أنبأ الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم بما في الذكر من التقدير الذي هو خبء الشرعة ونظم به ما أنزل من دعوة الخلق إلى حكمه فانتظم ذلك رتبتي أمر نظم تعالى بذلك إنزال ذكر خلق معطوفاً على ذكر خلق أعلى رتبة منه، نسبته منه كنسبة الدعوة من خبئها، فذكر خلق آدم ظاهر خبء ما عطف عليه وهو والله أعلم ذكر خلق محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو خبء خلق آدم، فكأنه تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بأمر خلقه له بدء وحي سر ثم أعلن بما عطف عليه من ذكر خلق آدم وحي علن ليكون أمر خلق محمد صلى الله عليه وسلم عند الخاصة فهماً كما كان أمر خلق آدم عند العامة إفصاحاً؛ وكان المفهوم: اذكر يا محمد إذ كان في خلقك كذا وإذ قال: {ربك} أي المحسن إليك برحمة العباد بك الذي خبأك في إظهار خلق آدم {للملائكة} ما أنزل، وتأويل الملائكة عند أهل العربية أنه جمع ملاك مقلوب من مألك من الألك وهي الرسالة، فتكون الميم زائدة ويكون وزنه معافلة، ويكون الملك من الملك وهو إحكام ما منه التصوير، من ملكت العجين، وجمعه أملاك، تكون فيه الميم أصلية، فليكن اسم ملائكة جامعاً للمعنيين منحوتاً من الأصلين، فكثيراً ما يوجد ذلك في أسماء الذوات الجامعة كلفظ إنسان بما ظهر فيه من أنه من الأنس والنسيان معاً، وهو وضع للكلم على مقصد أفصح وأعلى مما يخص به اللفظ معنى واحداً، فللكلام رتبتان: رتبة عامة ورتبة خاصة أفصح وأعلى كَلِماً وكلاماً.
قال: وفيه أي هذا الخطاب مع ذلك استخلاص لبواطن أهل الفطانة من أن تعلق بواطنهم بأحد من دونه حين أبدى لهم انفراده بإظهارهم خلقاً دون ملائكته الأكرمين، حتى لا تعلق قلوبهم بغيره من أهل الاصطفاء فكيف بمن يكون في محل البعد والإقصاء! توطئة لقبيح ما يقع من بعضهم من اتباع خطوات الشيطان؛ وذلك لأن في كل آية معنى تنتظم به بما قبلها ومعنى تتهيأ به للانتظام بما بعدها؛ وبذلك كان انتظام الآي داخلاً في معنى الإعجاز الذي لا يأتي الخلق بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
{إني} إن حرف يفهم توكيداً من ذات نفس المؤكد وعلمه. والياء اسم عليّ يخص المضيف إلى نفسه الذي يضيف الأشياء إليه، {جاعل في الأرض} ولما كانت خلافة آدم عليه السلام كاملة في جميع الأرض بنفسه وبذريته وحّد لذلك مع أنه يصح أن يراد به الجنس فقال: {خليفة} الخليفة ذات قائم بما يقوم به المستخلف على حسب رتبة ذلك الخليفة منه، فهو خليقة الله في كونه مُلكه وملكوته، وهم أيضاً بعضهم خلفاء بعض؛ فهو خليفة بالمعنيين- انتهى.
وجعل سبحانه هذا التذكير في سياق داع إلى عبادته وقائد إلى محبته حيث متّ إلى هذا النوع الآدمي بنعمه عليهم وإحسانه إليهم قبل إيجادهم، فذكر لهم ما حاجّ به ملائكته عنهم، وما شرف به أباهم آدم من العلم وأمر الملائكة المقربين بالسجود له، ثم ما وقع لإبليس معه وهما عبدان من عبيده فتاب عليه ولم يتب على إبليس مع سبقه له بالعبادة بل أوجب طرده وأبّد بعده فقال تعالى حكاية عن الملائكة جواباً لسؤال من كأنه قال ما قالوا حين أخبرهم سبحانه بذلك: {قالوا} طالبين الإيقان على الحكمة في إيجاد من يقع منه شر {أتجعل فيها} أي في الأرض {من يفسد فيها} أي بأنواع المعاصي بالقوة الشهوانية، {ويسفك} من السفك، قال الحرالي: وهو سكب بسطوة {الدماء} أي بغير حقها بالقوة الغضبية، لعدم عصمتهم، وخلقهم جوفاً لا يتمالكون، وأصحاب شهوات عليها يتهالكون؛ وكأنهم لما رأوا صورة آدم تفرسوا فيها ذلك لو سألوا عن منافع أعضائه وما أودع فيها من القوى والمعاني أخبرهم تعالى بما تفرسوا منه ذلك والدم.
قال الحرالي: رزق البدن الأقرب إليه المحوط فيه {ونحن} أي والحال إنا نحن، وهذا الضمير كما قال الحرالي: اسم القائل المستتبع لمن هو في طوع أمره لا يخالفه {نسبح} أي نوقع التسبيح أي التنزيه لك والإبعاد عما لا يليق بك ملتبسين في التسبيح {بحمدك} والحاصل إنا نبرئك عن صفات النقص حال إثباتنا لك صفات الكمال، وحذف المفعول للتعميم؛ وقال الحرالي: التسبيح تنزيه الحق تعالى عن بادية نقص في خلق أو رتبة، وحمد الله استواء أمره علواً وسفلاً ومحو الذم عنه والنقص منه، وذلك تسبيح أيضاً في علو أمر الله، فما سبح بالحمد إلا أهل الحمد من آدم ومحمد صلى الله عليه وسلم، فغاية المسبح الحمد، والحمد تسبيح لمن غايته وراء ذلك الاستواء- انتهى.
{ونقدس} أي نطهر كل شيء نقدر عليه من نفوسنا وغيرها، {لك} أي لا لغيرك لعصمتنا بك، أو المعنى نوقع التقديس أي التطهير لك بمعنى أنك في الغاية من الطهارة والعلو في كل صفة. قال الحرالي: القدس طهارة دائمة لا يلحقها نجس ظاهر ولا رجس باطن، واللام تعلة للشيء لأجله كان ما أضيف به- انتهى.
ولما تضمن تفرسهم هذا نسبتهم أنفسهم إلى العلم المثمر للإحسان، ونسبة الخليفة إلى الجهل المنتج للإساءة أعلمنا سبحانه لنشكره أنه حاجَّ ملائكته عنا، فبين لهم أن الأمر على خلاف ما ظنوا بقوله استئنافاً: {قال إني أعلم} أي من ذلك وغيره {ما لا تعلمون}. وقال الحرالي: وأعلم تعالى بما أجرى عليه خلقه من القضاء بما ظهر والحكم على الآتي بما مضى حيث أنبأ عن ملائكته بأنهم قضوا على الخليفة في الأرض بحال من تقدمهم في الأرض من الجبلة الأولين من الجن الذين أبقى منهم عزازيل وغيرهم ليتحقق أن أمر الله جديد وأنه كل يوم هو في شأن لا يقضي على آتي وقت بحكم ما فيه ولا بما مضى قبله- انتهى. والأظهر ما ذكرته أنهم إنما قالوا ذلك تفرساً بحكم ما ظهر لهم من صورته ونحو ذلك من إعلامهم بأنه يجمع فيه بين الشهوة والعقل، ومن المعلوم أن الشهوة حاملة على الفساد؛ وعلم سبحانه ما خفي عنه من أنه يوفق من أراد منهم للعمل بمقتضى العقل مع قيام منازع الشهوة والهوى، فيأتي غاية الكمال التي هي فوق درجة العامل بمقتضى العقل من غير منازع له فيظهر تمام القدرة والله أعلم.


ولما أعلم سبحانه الملائكة أن الأمر على خلاف ما ظنوا شرع في إقامة الدليل عليه فقال عاطفاً على قوله: {قال}: {وعلم} أي لإقامة الدليل على ذلك، والتعليم تكرار العلم ليثبت لما في جبلة المعلَّم من النسيان، {آدم} من الأدم من الأديم وهو جلدة الأرض التي منها جسمه، وحظ ما فيه من أديم الأرض هو اسمه الذي أنبأ عنه لفظ آدم، {الأسماء} أي التي للأشياء {كلها} وهو جمع اسم وهو ما يجمع اشتقاقين من السمة والسمو؛ فهو بالنظر إلى اللفظ وسم وبالنظر إلى الحظ من ذات الشيء سمو، وذلك السمو هو مدلول الاسم الذي هو الوسم الذي ترادفه التسمية- قاله الحرالي، وقال في كتاب له في أصول الفقه: الاسم يقال على لفظ التسمية ويقال على حظ ونصيب من ذوات الأشياء، وتلك هي المعروضة على الملائكة، واسم التسمية يحاذي به المسمى معلومه من الشيء المسمى الذي هو الاسم المعروض، وهو عند آدم علم وعند الملائكة ومن لا يعلم حقيقة الاسم المعروض توقيف ونبأ- انتهى.
ولما كان العرض على الملائكة بالغاً في المراد أشار إلى تعظيمه بحرف التراخي فقال: ثم {عرضهم} أي الأشياء. قال الحرالي: أظهرهم عن جانب وهو العرض والناحية {على الملائكة} القائلين لذلك. وقال الحرالي: لما ذكر تعالى مراجعة الملائكة في خلق هذا الخليفة ذكر إبداءه لهم وجه حكمة علية بما أعلى هذا الخليفة من تعليمه إياه حقائق جميع الذوات المشهودة لهم على إحاطتهم بملكوت الله وملكه شهوداً فأراهم إحاطة علم آدم بما شهدوا صورة ولم يشهدوا حقيقة مدلول تسميتها، وعلمه حكمة ما بين تلك الأسماء التي هي حظ من الذوات وبين تسمياتها من النطق ليجتمع في علمه خلق كل شيء صورة وأمره كلمة فيكمل علمه في قبله على سبيل سمعه وبصره، واستخلفه في علم ما له من الخلق والأمر، وذلك في بدء كونه فكيف يحكم حكمة الله فيما يتناهى إليه كمال خلقه إلى خاتمة أمره فيما انتهى إليه أمر محمد صلى الله عليه وسلم مما هو مبهم في قوله تعالى: {وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً} [النساء: 113] فأبدى الله عز وجل لهم بذلك وجه خلافة علمية وعملية في التسمية إعلاء له عندهم، وقد جعلهم الله عز وجل مذعنين مطيعين فانقادوا للوقت بفضل آدم على جميع الخلق وبدا لهم علم أن الله يعلي من يشاء بما يشاء من خلافة أمره وخلقه، وتلك الأسماء التي هي حظوظ من صور الموجودات هي المعروضة التي شملها اسم الضمير في قوله تعالى: {ثم عرضهم} وأشار إليه {هؤلاء} عند كمال عرضهم، وأجرى على الجميع ضمير هم لاشتمال تلك الكائنات على العاقلين وغيرهم؛ وبالتحقيق فكل خلق ناطق حين يستنطقه الحق، كما قال تعالى: {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم} [يس: 65] وإنما العجمة والجمادية بالإضافة إلى ما بين بعض الخلق وبعضهم- انتهى.
وقال أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي في كتاب الزينة: ويقال إن الاسم مأخوذ من السمو وهو العلو والرفعة، وإنما جعل الاسم تنويهاً بالدلالة على معنى الاسم لأن المعنى تحت الاسم- هذا قول النحويين؛ والسمة تدل على صاحبها، لأنهما حرفان سين وميم، فالسين من السناء والميم من المجد وهو لب الشيء، فكأنه سمى اسماً لأنه يضيء لك عن لب الشيء ويترجم عن مكنونه، وليس شيء إلا وقد وسمه الله بسمة تدل على ما فيه من الجوهر؛ فاحتوت الأسماء على جميع العلم بالأشياء، فعلمها الله آدم وأبرز فضيلته على الملائكة عليهم السلام- انتهى.
{فقال} معجزاً لهم {أنبئوني} أي أخبروني إخباراً عظيماً قاطعاً {بأسماء هؤلاء} أي الموجودات بتفرسكم فيها {إن كنتم صادقين} أي فيما تفرستموه في الخليفة وفي أنساله. قال الحرالي: هذه الأسماء المواطئة للتسمية من السمة والأسماء الأول هي الحظوظ من الذوات التي المتسم بها هو المسمى، ومع ذلك فبين التسمية والاسم مناسبة مجعول الحكمة بينهما بمقتضى أمر العليم الحكيم- انتهى. {قالوا} متبرئين من العلم {سبحانك} أي ننزهك تنزيهاً يجل عن الوصف عن أن ننسب إليك نقصاً في علم أو صنع، ونتبرأ إليك مما يلزم قولنا من ادعاء العلم لسواك.
قال الحرالي: وفي هذا المعنى إظهار لفضلهم وانقيادهم وإذعانهم توطئة لما يتصل به من إباء أبليس- انتهى. والحاصل أنه تصريح بتنزيه الله تعالى عن النقص وتلويح بنسبته إليهم اعتذاراً منهم عما وقعوا فيه، ولذا قالوا: {لا علم لنا} أي أصلاً {إلا ما علمتنا} فهو دليل على أنه لا سبيل إلى علم شيء من الأشياء إلا بتعليم الله. قال الحرالي: رداً لبدء الأمر لمن له البدء، ولذلك ورد في أثارة من علم: من لم يختم علمه بالجهل لم يعلم، وذلك الجهل هو البراءة من العلم إلا ما علم الله- انتهى.
ثم خصوه بما نفوه عن أنفسهم فقالوا: {إنك أنت} أي وحدك {العليم} أي العالم بكل المعلومات {الحكيم} أي فلا يتطرق إلى صنعك فساد بوجه فلا اعتراض أصلاً. قال الحرالي: توكيد وتخليص وإخلاص للعلم والحكمة لله وحده، وذلك من أرفع الإسلام، لأنه إسلام القلوب ما حلاها الحق سبحانه به! فإن العلم والحكمة نور القلوب الذي تحيا به كما أن الماء رزق الأبدان الذي تحيا به! فإن العلم والحكمة نور القلوب الذي تحيا به كما أن الماء رزق الأبدان الذي تحيا به؛ والحكمة جعل تسبيب بين أمرين يبدو بينهما تقاض من السابق واستناد من اللاحق- انتهى.
وأصلها في اللغة المنع من الفساد ولا يكون ذلك إلا عن تمام العلم.
فلما قالوا ذلك وأراد إشهادهم فضل آدم عليه السلام استأنف في جواب من كأنه قال: ما قال لهم عند ذلك؟ قوله: {قال} مظهراً لفضيلة العلم الموجبة لشرف العالم {يا آدم أنبئهم} أي ليزدادوا بصيرة في أن العالم من علّمته والسعيد من أسعدته في أي صورة ركبته {بأسمائهم} فأنبأهم بها. قال الحرالي: ولم يقل: علمهم، فكان آدم عليماً بالأسماء وكانوا هم مخبرين بها لا معلميها، لأنه لا يتعلمها من آدم إلا من خلقه محيط كخلق آدم، ليكون من كل شيء ومنه كل شيء، فإذا عرض عليه شيء مما منه آنس علمه عنده؛ فلذلك اختصوا بالإنباء دون التعليم، فلكل شيء عند آدم عليه السلام بما علمه الله وأظهر له علاماته في استبصاره والشيء اسمان جامعان: اسم بيصّره من موجود الشيء واسم يذكره لإبداء معنى ذلك الشيء إلى غاية حقيقته، ولكل اسم جامع عنده وجوه متعددة يحاذي كلَّ وجه منها بتسمية تخصه، وبحسب تلك الوجوه تكثرت عنده الألسنة وتكثرت الألسن الأعجمية، فأفصحها وأعربها الاسم الجامع وذلك الاسم هو العربي الذي به أنزل خاتم الكتب على خاتم المرسلين وأبقى دائماً في مخاطبة أهل الجنة لمطابقة الخاتمة إحاطة البادئة {حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم} [الزخرف: 1، 4] وطابق الختم البدء إحاطة لإحاطة- انتهى. وهذا كما كان ولده محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم يكلم كل إنسان بلغته من قبائل العرب ومن العجم بل ومن البهائم العجم لكان علمه لبعض اللغات من غير مخالطة لأهلها ولا إلمام بلسانهم دليلاً على علم سائر اللغات، لأنه لا معلم له إلا العالم بكل شيء. {فلما أنبأهم} أي أخبرهم إخباراً عظيماً يأخذ بالألباب، و{لما} كلمة تفهم وجوب أمر لأمر في حين فتجمع معنى الشرط والظرف- قاله الحرالي {بأسمائهم} عل ما هي عليه.
قال الحرالي في التفسير وكتاب له في أصول الفقه: هذه التسميات ليس الأسماء التي هي موجودة من الذوات، لأن تلك لا ينالها إلا العلم وشهود البصيرة وقد جرى ذلك في وراثة في ولد آدم حتى كان رؤبة وأبوه العجاج يرتجلان اللغة ارتجالاً ويتعلمها منهم من سواهم من العرب، لأن التسمية التي ينالها الإنباء للاسم الذي يناله العلم كالمثل له المبدي لصورة معناه للأذن لمناسبة ومواصلة بين خصوص التسمية واسمها من الذات، فيعلم ما يحاذي الشيء المفرد من منتظم الحروف كما يعلم الواصف ما يحاذي الشيء ويحاكيه من منتظم الكلم، فيحاذيه ويحاكيه الواصف بكلام، ويحاذيه ويسميه المسمى له بكلمة واحدة، وكما أنه ليس لكل أحد مُنّة أن يصف فكذلك ليس لكل أحد منة أن يسمى، ومنه ما يجري من ألسنة العامة من النبز والألقاب وقد كان يجب الاكتفاء بما في هذه الآية من العلم ببدء أمر المسميات عما وقع فيها من الاختلاف بين التوقيف والاصطلاح، فقد تبين أنها عن علم علمه الله آدم لا عن توقيف كما هو عند الملائكة من آدم ولا عن اصطلاح كما قيل- انتهى.
{قال} أي الله تعالى مثبتاً مدخول النفي كما هو شأن همزة التقرير {ألم أقل لكم} يا ملائكتي! ولما كان هذا خبراً جسيماً نبه على بلوغه النهاية في العظمة وأنه مما يستغربه بعض الخلق بالتأكيد فقال: {إني أعلم} علماً مستمراً لا انقضاء له {غيب السماوات والأرض} فمن أردت تعليمه شيئاً من ذلك كان عالماً به، وأما غيري فلا طريق له إلى معرفة المستقبل إلا الفراسة وقد تحظى. قال الحرالي: قررهم حتى لا يكون لهم ثانية وأعلم بذلك عباده من ولد آدم حتى يستنوا بحكم التسليم لله في ما يبديه من غير تعرض ولا اعتراض، فمنهم من آمن ومنهم من كفر- انتهى.
{وأعلم ما تبدون} في كل حين {وما كنتم تكتمون} فيما مضى وفيما يأتي. قال الحرالي: وفي صيغة تكتمون من الدلالة على تمادي ذلك في كيانهم ما في صيغة تبدون من تمادي بادى ذلك منهم- انتهى.
ولما أخبرنا سبحانه بهذه النعمة على أبينا ضم إليها الإنعام بإسجاد الملائكة له ونحن في ظهره فقال عاطفاً على إذ الأولى وعدل عن الغيبة إلى التكلم ثم إلى كونه في مظهر العظمة إعلاماً بأنه أمر فصل لا فسحة في المراجعة فيه. وقال الحرالي: لما أنبأ تعالى بأمر مفاوضة الملائكة وما كان من ادعائهم وتسليمهم الأمر لله ولمن علمه الله وهو آدم عليه السلام نظم بذلك نبأ انقيادهم لآدم فعلاً كما انقادوا له علماً تماماً لكمال حالهم في التسليم علماً وعملاً فقال تعالى- انتهى. {وإذ قلنا} أي على عظمتنا {للملائكة} أي الذين أكرمناهم بقربنا {اسجدوا لآدم} عبدنا اعترافاً بفضله لتفضيلنا له.
قال الحرالي: فجعله باباً إليه وكعبة يجلّونه بجلاله تعالى ومحراباً وقبلة، يكون سجودهم له سجوداً لله تجاه آدم كسجود آدم تجاه الكعبة، وظهر بذلك سوء إباء إبليس عن السجود حين خالفهم في طينة الكيان، لأن الملائكة خلقت من نور والنور طوع لا يحوزه أين ولا يختصه جهة، ولأن الجان خلقت من نار وهي مما يحوزه أين وتختصه جهة لا يرجع عنها إلا بقهر وقسر، فلم ينزل عن رتبة قيامه في جبلته لمخلوق الطين حيث لم يشعر بإحاطة خلق آدم كما تلقته الملائكة- انتهى. فبادروا الامتثال {فسجدوا} أي كلهم له كما أمرهم الله تعالى {إلا إبليس} قال الحرالي: من الإبلاس وهو انقطاع سبب الرجاء الذي يكون عنه اليأس من حيث قطع ذلك السبب- انتهى.
فكأنه قيل: ما فعل؟ فقيل: {أبى}، من الإباء وهو امتناع عما حقه الإجابة فيه- قاله الحرالي. {واستكبر} عن السجود له، من الاستكبار وهو استجلاب الكبر، والكبر بطر الحق وغمض الناس وغمطهم، وموجب ذلك استحقار الغير من وجه واستكمال النفس من ذلك الوجه- قاله الحرالي.
{وكان} أي في أصل جبلته بما أفهمه الاستكبار من نسبتنا إلى ترك الحكمة إما جهلاً أو جوراً في أمرنا بسجوده لآدم وهو على زعمه خير منه {من} وهي كلمة تفهم اقتباس الشيء مما جعل منه- قاله الحرالي. {الكافرين} أي الذين سبق علمنا بشقاوتهم لم يتجدد لنا بذلك علم ما لم نكن نعلمه.
وفي الآيات الثلاث {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} و{كيف تكفرون بالله} و{إذ قال ربك للملائكة} أيضاً إشارة إلى اختلاف الحال في الخطاب بوصف الربوبية مع الخُلّص ومع من دونهم وفي الخطاب بأوصاف الذات، وذلك أنه تعالى لما بين أن الضالين في حسن أمثاله هم الخاسرون عجب ممن يكفر به إشارة إلى شدة ظهوره وانتشار نوره في أمثاله وجميع أقواله وأفعاله وأن شهوده في كل اعتبار أوضح من ضياء النهار، لأنه ما ثمَّ إلا ذاته وأفعاله وصفاته:
وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد
متجلياً عليهم باسم الإلهية في أفعاله التي هم لها ناظرون وبها عارفون، فقال: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} إلى أن قال: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} الآية، وأدرج في ذلك أمر البعث بقوله: {ثم إليه ترجعون} تنبيهاً على مشاركته لبقية ما في الآية من الظهور، لما قدم من الاستدلال عليه بإخراج الثمرات حين تعرف إليهم بوصف الربوبية الناظر إلى العطف والامتنان والتربية والإحسان في مثل ما هنا من أفعاله الظاهرة وآثاره الباهرة فقال: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم} إلى آخرها؛ وختم هذه الآية بوصف العلم الشامل لما قام عليه من الدليل ضمن هذا التعجيب إشارة إلى الاستدلال على كمال الأمثال وتحديداً لمن يستمر على الكفران بعد هذا البيان بأنه بمرأى منه ومسمع في كل حال، فلما فرغ من خطابهم بالأمور الظاهرة على قدر فهومهم ومبلغ علومهم رقي الخطاب إلى رتبة نبيه عليه الصلاة والسلام لترقية البيان إلى غيب مقاولته لملائكته فقال: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل} الآية فلكل مقام مقال، ولكل مخاطب حد في الفهم وحال.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في المفتاح الباب السَابع في إضافة الربوبية ونعت الإلهية في القرآن: اعلم أن الربوبية إقامة المربوب بما خلق له وأريد له، فرب كل شيء مقيمه بحسب ما أبداه وجوده، فرب المؤمن ربه ورباه للإيمان، ورب الكافر ربه ورباه للكفران، ورب محمد ربه ورباه للحمد: «أدبني ربي فأحسن تأديبي»، ورب العالمين ربى كل عالم لما خلق له {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50]؛ فللربوبية بيان في كل رتبة بحسب ما أظهرته آية مربوبه- من عرف نفسه عرف ربه {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك} [الكهف: 18] {اعبدوا ربكم الذي خلقكم} {لهم أجرهم عند ربهم} [البقرة: 262].
وقال في الباب الذي بعده: فخطاب الإقبال على النبي صلى الله عليه وسلم أعظم إفهام في القرآن {ألم تر إلى ربك كيف مد الظل} [الفرقان: 4] الآية {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً} [الفرقان: 47] الآية، تفاوت الخطابين بحسب تفاوت المخاطبين وكما يتضح لأهل التعرف رتب البيان بحسب إضافة اسم الرب فكذلك يتحقق لأهل الفهم وجوه إحاطات البيان بحسب النعوت والتبيان في اسم الله غيباً في متجلى الآيات للمؤمن، وعيناً للكامل الموقن، وجمعاً وإحاطة عن بادئ الدوام للمحقق الواحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد {وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم} [آل عمران: 101] {قل هو الله أحد} [الإخلاص: 1]؛ والتفطن في رتب البيان في موارد هذا النحو من الخطاب في القرآن من مفاتيح الفهم وبوادئ مزيد العلم- انتهى.
وقد أوقع سبحانه ذكر ابتداء الخلق على ترتيب إيجاده له فقد روى مسلم في صحيحه والنسائي في التفسير من سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: «خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل» وقال المزي في الأطراف قال البخاري في التاريخ: وقال بعضهم: أبو هريرة عن كعب وهو أصح- انتهى.
وما يقال من أنه كان قبل آدم عليه السلام في الأرض خلق يعصون قاس عليهم الملائكة عليهم السلام حال آدم عليه السلام، كلام لا أصل له، والذي يدل عليه حديث مسلم هذا كما ترى أنه أول ساكني الأرض؛ والذي يلوح من اسمه في بدئه بالهمزة التي هي أول الحروف وختمه بالميم التي هي آخرها وختامها أنه أول ساكنيها بنفسه، كما أنه خاتمهم بأولاده، عليهم تقوم الساعة. ورأيت في ترجمة للتوراة وهو أولها: خلق الله ذات السماء وذات الأرض وكانت الظلمة فقال الله: ليكن النور، فكان النور، فأراد أن يفرق بين النور والحِندِس فسمى النور نهاراً والحندس مساءً؛ ثم قال: ليكن جَلَد وسط الماء ويميز بين الماء الأعلى والماء الأسفل.
وفي نسخة: ليكن سقف بين المياه ليفصل بين الماء والماء، فكان كذلك فخلق الله سقفاً وفصل به بين الماء الذي تحت الجلد والماء الذي فوق الجلد وسمى الله الجلد سماء؛ وقال الله: لتجتمع المياه التي تحت السماء إلى مكان واحد ولتظهر اليابسة، فكان كذلك فسمى الله اليابسة أرضاً وسمى مجامع المياه بحوراً؛ وقال: لتخرج الأرض نبت عشب يزرع منه زرع لجنسه وشجر ذات ثمار تثمر لجنسها يغرس منه غرس على الأرض، فأينعت الأرض نبتاً عشباً يزرع منه زرع لجوهره وشجر ذات ثمار لجوهرها؛ فقال الله: ليكن نجمان في جلد السماء ليضيئا على الأرض وليميزا بين النهار والليل وليكونا للآيات والأزمان والعدد والأيام والسنين، فخلق الله نورين عظيمين: المصباح الأكبر لسلطان النهار والمصباح الأصغر لسلطان الليل وخلق النجوم، وكان المساء والصباح من اليوم الرابع؛ فقال الله: ليحت الماء حيتاناً ذات أنفس حية، وليطر الطير فوق الأرض في جو السماء، فكان كذلك؛ وخلق تنانين عظيمة وكل نفس حية تدب في الماء لأجناسها وكل طيور ذات أجنحة لأصنافها وباركها وقال: انموا واكثروا واملؤوا مياه البحور وليكثر الطير على وجه الأرض؛ وقال الله: لتخرج الأرض أنفساً حية لجنسها دواب وسباع الأرض لأجناسها، فكان كذلك؛ وخلق الله سباع الأرض لأجناسها والدواب لأصنافها وجميع هوام الأرض لجواهرها.
فأراد الله أن يخلق خلقاً يتسلط على حيتان البحر وطير السماء وعلى الدواب وجميع السباع وعلى الحشرة التي تدب على الأرض فخلق آدم بصورته ذكراً وأنثى وبارك عليهما وقال لهما: انميا وأكثرا وتسلطا على حيتان البحر وطير السماء والدواب وجميع السباع؛ وقال: ها أنا ذا قد أعطيتكما جميع العشب الذي يزرع على وجه الأرض كلها وكل شجر ذات ثمار تغرس فيها ليكون لكما مأكلاً ولجميع سباع البر وطيور السماء ولكل ما يدب على الأرض فيه نفس حية، فكان كذلك؛ وكملت السماء والأرض وجميع ما فيهما في اليوم السادس، ولم يكن ظهر على الأرض شيء من عشب الأرض، لأن الله لم يكن أهبط المطر على وجه الأرض بعد، وذلك لأن آدم لم يكن خلق بعد ليعمل في الأرض، وكان ينبوع يظهر في قعر عدن فيسقي جميع وجه الأرض.
فجبل الله الرب آدم من تربة الأرض ونفخ في وجهه نسمة الحياة فصار آدم ذا نفس حية وغرس الله الرب فردوساً بعدن من قبل وأسكنه آدم، وأنبت الله كل شجرة حسنة المنظر شهية المأكل وشجرة الحياة وسط الفردوس وشجرة علم الخير والشر، وكان نهر يخرج من عدن فيسقي الفردوس وكان ينفصل من هناك وينفرق على أربعة أطراف: اسم أحدها سيحون الذي يحيط بجميع أرض الهند وتلك البلاد الكثيرة، وذَهَب تلك الأرض جيد جداً، هنالك المها وحجر البلور، واسم النهر الثاني جيحون الذي يحيط بجميع أرض الحبشة، واسم النهر الثالث دجلة الذي يخرج قبالة الموصل، والنهر الرابع الفرات؛ فتقدم الرب إلى آدم وقال له: كل من جميع أشجار الفردوس، فأما شجرة علم الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك في اليوم الذي تأكل منها تموت موتاً.
وقال الله: لا يحسن أن يكون آدم وحده فلنخلق له عوناً مثله، فجمع الرب من الأرض جميع سباع البر وطير السماء وأقبل بها إلى آدم ليرى ما يسميها وكل نفس حية سماها آدم فذلك اسمها فسمى الجميع، فألقى الله على آدم سباتاً فرقد، فنزع ضلعاً من أضلاعه وأخلف له بدله لحماً، فخلق الله من الضلع الذي أخذ من آدم امرأة، فأقبل بها إلى آدم فقال: هذه الآن التي قرنت إليّ! وفي هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي! فلتدع امرأة لأنها أخذت من الرجل، ولذلك يدع الرجل أباه وأمه ويلحق بامرأته ويكونان كلاهما جسداً واحداً؛ وكانا كلاهما عريانين آدم وامرأته ولا يستحييان.
وكانت الحية أعز دواب البر كلها فقالت الحية للمرأة: أحق أن الله قال لكما: لا تأكلا من جميع شجر الجنة؟ فقالت المرأة: إنا لنأكل من كل ثمر الجنة، فأما من ثمرة الشجرة التي في وسط الجنة فإن الله قال لنا: لا تأكلا منها ولا تقرباها لكيلا تموتا؛ قالت الحية: لستما تموتان، ولكن الله علم أنكما إن تأكلا منها تنفتح أعينكما وتكونا كالإله تعلمان الخير والشر. فرأت المرأة الشجرة طيبة المأكل شهية في العين فأخذت من ثمرتها فأكلت وأعطت بعلها فأكل، فانفتحت أبصارهما وعلما أنهما عريانان، فوصلا من ورق التين وصنعا مآزر.
ثم ذكر أن الله تعالى سأله عن ذلك فقال آدم: المرأة التي قرنتها معي هي أطعمتني من الشجرة فأكلت، فقال الله الرب للمرأة: ما هذا الذي فعلت؟ فقالت المرأة: إن الحية أعطتني فأكلت، فقال للحية: ملعونة تكونين من جميع الدواب ومن كل ماشية البر، وعلى بطنك تمشين، والتراب تأكلين كل أيام حياتك، وأغرى العداوة بينك وبين المرأة وبين ولدها، وولدها يطأ رأسك وأنت تلدغينهم بأعقابهم! وقال للمرأة: أكثر أوجاعك وإحبالك وبالوجع تلدين البنين، وإلى بعلك تردين وهو مسلط عليك! وقال لآدم: من أجل طاعتك امرأتَك وأكلك الشجرة التي نهيتك عنها ملعونة الأرض من أجلك بالشقاء تأكل منها كل أيام حياتك أجاجاً وشوكاً تنبت لك، وتأكل عشب الأرض، وبرشح جبينك تأكل طعامك حتى تعود في الأرض التي منها أخذت من أجل أنك تراب وإلى التراب تعود.
فدعا آدم اسم امرأته حواء من أجل أنها كانت أم كل حي، وصنع الله الرب لآدم وامرأته سرابيل من الجلود وألبسها، فأرسله من جنة عدن ليحرث الأرض التي منها أخذ، فأخرجه الله ربنا وأحاط من مشرق عدن ملكاً من الكروبيين بيده حربة يطوف بها ليحرس طريق شجرة الحياة.
ثم قال بعد ذلك: فكان جميع حياة آدم تسعمائة وثلاثين سنة ثم توفي عليه السلام- هذا نص التوراة. والكروب بوزن زبور بلغة العبرانيين الشخص الصغير، فكان الكروبيون الملائكة المنسوبين إلى مخالطة الناس بالوحي أخذاً من الكروبَين تثنية كروب وهما شخصان في قبة الزمان كان يسمع كلام الله من بينهما، كما يأتي قريباً.
فإن أنكر منكر الاستشهاد بالتوراة أو بالإنجيل وعمي عن أن الأحسن في باب النظر أن يرد على الإنسان بما يعتقد تلوت عليه قول الله تعالى استشهاداً على كذب اليهود: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} [آل عمران: 93] وقوله تعالى: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} [المائدة: 48]- في آيات من أمثال ذلك كثيرة؛ وذكرته باستشهاد النبي صلى الله عليه وسلم التوراة في قصة الزاني كما سيأتي إن شاء الله تعالى في سورة المائدة مستوفى. وروى الشيخان عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكون الأرض يوم القيامة خبزة نزلاً لأهل الجنة، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم! ألا أخبرك بنُزُل أهل الجنة يوم القيامة؟ قال: بلى. قال: تكون الأرض خبزة واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه» وقريب من ذلك حديث الجساسة في أشباهه. هذا فيما يصدقه كتابنا.
وأما ما لا يصدقه ولا يكذبه فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج» ورواه مسلم والترمذي والنسائي عن أبي سعيد رضي الله عنه، وهو معنى ما في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: {آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم}» الآية، فإن دلالة هذا على سُنِّية ذكر مثل ذلك أقرب من الدلالة على غيرها، ولذا أخذ كثير من الصحابة رضي الله عنهم عن أهل الكتاب.
فإن فهم أحد من الشافعية منع أئمتهم من قراءة شيء من الكتب القديمة مستنداً إلى قول الإمام أبي القاسم الرافعي في شرحه: وكتب التوراة والإنجيل مما لا يحل الانتفاع به، لأنهم بدلوا وغيروا، وكذا قال غيره من الأصحاب؛ قيل له: هذا مخصوص بما علم تبديله، بدليل أن كل من قال ذلك علل بالتبديل فدار الحكم معه، ونص الشافعي ظاهر في ذلك، قال المزني في مختصره في باب جامع السير: وما كان من كتبهم أي الكفار فيه طب وما لا مكروه فيه بِيعَ وما كان فيه شرك أبطل وانتفع بأوعيته.
وقال في الأم في سير الواقدي في باب ترجمته كتب الأعاجم قال الشافعي: وما وجد من كتبهم فهو مغنم كله، وينبغي للإمام أن يدعو من يترجمه، فإن كان علماً من طب أو غيره لا مكروه فيه باعه كما يبيع ما سواه من المغانم، وإن كان كتاب شرك شقوا الكتاب فانتفعوا بأوعيته وأداته فباعها، ولا وجه لتحريقه ولا دفنه قبل أن يعلم ما هو- انتهى.
فقوله في الأم: كتاب شرك، مفهم لأنه كله شرك، ولهذا عبر المزني عن ذلك بقوله: وما كان فيه شرك، أي في أبواب الكتاب وفصوله، وأدل من ذلك قولهم في باب الأحداث: إن حكمها في مس المحدث حكم ما نُسِخَتْ تلاوته من القرآن في أصح الوجهين، والتعبير بالأصح على ما اصطلحوا عليه يدل على أن الوجه القائل بحرمة مس المحدث وحمله لها قوى، وأدل من ذلك ما ذكره محرر المذهب الشيخ محيي الدين النواوي رحمه الله في مسائل ألحقها في آخر باب الأحداث من شرح المهذب وأقرّه أن المتولي قال: فإن ظن أن فيها شيئاً غير مبدل كُرِه مسه- انتهى. فكراهة المس للاحترام، والاحترام فرع جواز الإبقاء والانتفاع بالقراءة، وأصرح من ذلك كله قول الشافعي رحمه الله: إن ما لا مكروه فيه يباع، وكذا قول البغوي في تهذيبه في آخر باب الوضوء: وكذلك لو تكلم- أي الجنب- بكلمة توافق نظم القرآن أو قرأ آية نسخت قراءتها أو قرأ التوراة والإنجيل أو ذكر الله سبحانه أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فجائز، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه» فإنه لا يتخيل أنه يجوز للجنب ما لا يجوز للمحدث، بل كل ما جاز للجنب قراءته من غير أمر ملجئ جاز للمحدث ولا عكس، وتعليله لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها دال على أن ذلك ذكر الله تعالى، ولا يجوز الحمل على العموم لا سيما إذا لوحظ قول القاضي الحسين: إنه يجوز الاستنجاء بهما، لأنه مبني على الوجه القائل بأن الكل مبدل؛ وهو ضعيف أو محمول على المبدل منهما، لأنه لا يخفى على أحد أن مسلماً فضلاً عن عالم لا يقول: إنه يستنجي بنحو قوله في العشر الكلمات التي صدرت بها الألواح قال الله جميع هذه الآيات كلها: أنا الرب إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكونن لك آلهة غيري، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدنها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور، لا تقسم بالرب إلهك كذباً، لأن الرب لا يزكي من حلف باسمه كذباً، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور.
وقد أشبع الكلام في المسألة شيخنا حافظ عصره أبو الفضل بن حجر في آخر شرحه للبخاري، وآخر ما حط عليه التفرقة بين من رسخ قدمه في العلوم الشرعية- فيجوز له النظر في ذلك فإنه يستخرج منه ما ينتفع به المهتدون- وبين غيره فلا يجوز له ذلك، وأيده بنظر الأئمة فيهما قديماً وحديثاً والرد على أهل الكتابين بما يستخرجونه منهما؛ فلولا جواز ذلك ما أقدموا عليه- والله الموفق وقد حررت المسألة في فن المرفوع من حاشيتي على شرح ألفية الشيخ زين الدين العراقي فراجعه إن شئت والله الهادي؛ ثم صنفت في ذلك تصنيفاً حسناً سميته: الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة.
تنبيه: اعلم أن التوراة ثلاث نسخ مختلفة اللفظ متقاربة المعنى إلا يسيراً: إحداها تسمى توراة السبعين، وهي التي اتفق عليها اثنان وسبعون حبراً من أحبارهم؛ وذلك أن بعض اليونان من ملوك مصر سأل بعض ملوك اليهود ببيت المقدس أن يرسل إليه عدداً من حفاظ التوراة، فأرسل إليه اثنين وسبعين حبراً، فأخلى كل اثنين منهم في بيت ووكل بهم كتّاباً وتراجمة، فكتبوا التوراة بلسان اليونان، ثم قابل بين نسخهم الستة والثلاثين فكانت مختلفة اللفظ متحدة المعنى، فعلم أنهم صدقوا ونصحوا، وهذه النسخة ترجمت بعد بالسرياني ثم بالعربي وهي في أيدي النصارى؛ والنسخة الثانية نسخة اليهود من الربانيين والقرائين، والنسخة الثالثة نسخة السامرة؛ وقد نبه على مثل ذلك الإمام السمرقندي في الصحائف واستشهد بكثير من نصوص التوراة على كثير من مسائل أصول الدين، وكذا الشيخ سعد الدين التفتازاني في شرح المقاصد والقاضي عياض في كتاب الشفاء وغيرهم.
ثم اعلم أن أكثر ما ذكرته في كتابي هذا من نسخة وقعت لي لم أدر اسم مترجمها. على حواشي فصولها الأوقات التي تقرأ فيها، فالظاهر أنها نسخة اليهود وهي قديمة جداً، فكان في الورقة الأولى منها محو في أطراف الأسطر فكملته من نسخة السبعين، ثم قابلت نسختي كلها مع بعض اليهود الربانيين على ترجمة سعيد الفيومي وهي عندهم أحسن التراجم لو كان هو القارئ، فوجدت نسختي أقرب إلى حقائق لفظ العبراني ومترجمها أقعد من سعيد في لغة العرب، هذا وظاهر القرآن في قوله تعالى:
{فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [الحجر: 29] أن الأمر بالسجود له كان قبل إتمام خلقه وأن السجود كان عقب النفخ، وبه صرح البغوي في تفسيره، وأجاب عن قوله تعالى في سورة الأعراف {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} [الأعراف: 11] بأجوبة، منها أن الخلق والتصوير لآدم وحده، وذكره بضمير الجمع لأنه أبو البشر فخلقه خلقهم وتصويره تصويرهم؛ ومنها أن {ثم} بمعنى الواو ليست للترتيب. انتهى. والتصوير شق السمع والبصر والأصابع- قاله يمان، والتسوية تعديل الخلق وإتمامه وتهيئته لنفخ الروح، ويمكن أن يكون {خلقناكم} وما بعده بمعنى قدرنا ذلك تقديراً قريباً من الإخراج من العدم؛ وبذلك يتضح قوله في التوراة: فخلق آدم بصورته ذكراً وأنثى، ثم قال بعد ذلك: لأن آدم لم يكن خلق بعد، ثم حكى خلقه وخلق زوجه منه؛ فهذا خلق بمعنى الإيجاد، وذلك بمعنى التقدير القريب منه- والتهيئة لقبول الغايات- والله أعلم. ومشى البيضاوي على أن الأمر بالسجود كان بعد الإنباء بالأسماء ولم يذكر دليلاً يصرف عن هذا الظاهر على أن المشي عليه أولى من جهة المعنى، لأن سجود الملائكة عليهم السلام قبل يكون إيماناً بالغيب على قاعدة التكاليف، وأما بعد إظهار فضيلة العلم فقد كُشِف الغطاء وصار وجه الفضل من باب عين اليقين؛ وأما الترتيب في الذكر هنا على هذا الوجه وهو جعل السجود بعد الإنباء فهو لنكتة بديعة وهي أنه تعالى لما كان في بيان النعم التي أوجبت شكره باختصاصه بالعبادة لكونه منعماً فبين أولاً نعمته على كل نفس في خاصتها بخلقها وإفاضة الرزق عليها. ثم ذكر الكل بنعمة تشملهم وهي محاجّته لأقرب خلقه إذ ذاك إليه عن أبينا آدم قبل إيجاده اقتضى الأسلوب الحكيم أن يوضح لهم الحجة في فضيلة هذا الخليفة فذكر ما آتاه من العلم، فلما فرغ من محاجتهم بما أوجب إذعانهم ذكر بنيه بنعمة السجود له، فما كان تقديم إظهار فضيلة العلم إلا محافظة على حسن السياق في ترتيب الدليل على أقوم منهاج وأوضح سبيل. ولما فرغ من نعمة التفضيل في الصفات الذاتية بين النعمة بشرف المسكن مع تسخير زوج من الجنس لكمال الأنس وما يتبع ذلك فقال تعالى. وقال الحرالي: لما أظهر الله سبحانه فضيلة آدم فيما أشاد به عند الملائكة من علمه وخلافته والإسجاد له وإباء إبليس عنه أظهر تعالى إثر ذلك ما يقابل من أحوال آدم حال ما ظهر للملائكة بما فيه من حظ مخالفة يشارك بها إفراط ما في الشيطان من الإباء لإحاطة خلق آدم بالكون كله علواً وسفلاً، وليظهر فضل آدم في حال مخالفته على إبليس في حال إبائه مما يبدو على آدم من الرجوع بالتوبة كحال رجوع الملائكة بالتسليم، فيظهر فيه الجمع بين الطرفين والفضل في الحالين: حال علمه وحال توبته في مخالفته، فجعل تعالى إسكان الجنة توطئة لإظهار ذلك من أمره فقال تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن}، من السكن وهو الهدوء في الشيء الذي في طيه إقلاق، أن في قوله: {أنت} اسم باطن الذات علماً هي المشتركة في أنا وأنتَ وأنتِ وأن تفعل كذا، والألف في أنا إشارة ذات المتكلم، وفي مقابلتها التاء إشارة لذات المخاطب ذكراً أو أنثى {وزوجك الجنة} فأجنت لآدم ما فيها من خبء استخراج أمر معصيته ليكون ذلك توطئة لكمال باطنه بإطلاعه على سر من أسرار ربه في علم التقدير إيماناً والكمال ظاهره يكون ذلك توطئة لفضيلة توبته إسلاماً ليس لبنيه التوبة إثر المعصية مخالفة لإصرار إبليس بعد إبائه وشهادة عليه بجهله في ادعائه، وجعل له ذلك فيما هو متنزل عن رتبة علمه فلم تلحقه فيه فتنة حفيظة على خلافته وأنزلت معصيته إلى محل مطعمه الذي هو خصوص حال المرء من جهة أجوفية خلقه ليبدو نقص الأجوف ويبدي ذلك إكبار الصمد الذي يُطْعِم ولا يُطعَم، فكان ذلك من فعله تسبيحاً بحمد ربه؛ لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له انتهى.
ولما كان السياق هنا لمجرد بيان النعم استعطافاً إلى المؤالفة كان عطف الأكل بالواو في قوله: {وكلا منها} كافياً في ذلك، وكان التصريح بالرغد الذي هو من أجل النعم عظيم الموقع فقال تعالى: {رغداً} أي واسعاً رافهاً طيباً هنيئاً {حيث} أي أيّ مكان {شئتما} بخلاف سياق الأعراف فإنه أريد منه مع التذكير بالنعم التعريف بزيادة التمكين وأنها لم تمنع من الإخراج تحذيراً للمتمكنين في الأرض المتوسعين في المعايش من إحلال السطوات وإنزال المثلاث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم المقصود من حكاية القصص في القرآن إنما هو المعاني فلا يضر اختلاف اللفظ إذا أدى جميع المعنى أو بعضه ولم يكن هناك مناقضة فإن القصة كانت حين وقوعها بأوفى المعاني الواردة ثم إن الله تعالى يعبر لنا في كل سورة تذكر القصة فيها بما يناسب ذلك المقام في الألفاظ عما يليق من المعاني ويترك ما لا يقتضيه ذلك المقام، وسأبين ما يطلعني الله عليه من ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى.
ولما أباح لهما سبحانه ذلك كله أتبعه بالنهي عن شجرة واحدة. قال الحرالي: وأطلق له الرغد إطلاقاً وجعل النهي عطفاً ولم يجعله استثناء ليكون آدم أعذر في النسيان لأن الاستثناء أهم في الخطاب من التخصيص وقال: {ولا تقربا} ولم يقل: ولا تأكلا، نهياً عن حماها ليكون ذلك أشد في النهي- انتهى. {هذه} ولما كان اسم الإشارة لا دلالة له على حقيقة الذات افتقر إلى بيان ذات المشار إليه فقال: {الشجرة} أي فإنكما إن قربتماها تأكلا منها {فتكونا} أي بذلك {من الظالمين} أي الواضعين الشيء في غير موضعه كمن يمشي في الظلام؛ وفي هذا النهي دليل على أن هذه السكنى لا تدوم، لأن المخلد لا يناسب أن يعرض للحظر بأن يحظر عليه شيء ولا أن يؤمر ولا ينهى، ولذلك دخل عليه الشيطان من جهة الخلد، ولا داعي لبيان نوع الشجرة لأن السياق لبيان شؤم المخالفة وبركة التوبة لا لتعيين المنهي عنه فليس بيانه حينئذ من الحكمة.


ثم بين أنهما أسرعا المواقعة بقضية خلقهما على طبائع الشهوة لما نهيا عنه فقال: {فأزلهما}، قال الحرالي: من الزلل وهو تزلق الشيء الذي لا يستمسك على الشيء الذي لا مستمسك فيه كتزلل الزلال عن الورق وهو ما يجتمع من الطل فيصير ما على الأوراق والأزهار، وأزالهما من الزوال وهو التنحية عن المكان أو المكانة وهو المصير بناحية منه؛ {الشيطان} هو مما أخذ من أصلين: من الشطن وهو البعد الذي منه سمي الحبل الطويل، ومن الشيط الذي هو الإسراع في الاحتراق والسمن، فهو من المعنيين مشتق كلفظ إنسان وملائكة {عنها} أي عن مواقعة الشجرة وعن كلمة تقتضي المجاوزة عن سبب ثابت كقولهم: رميت عن القوس- انتهى.
وتحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما أو زوالهما عنها {فأخرجهما} أي فتسبب عن إيقاعهما في الزلل الناشئ عن تلك المواقعة أنه أخرجهما {مما كانا فيه} من النعمة العظيمة التي تجل عن الوصف. قال الحرالي: (في) كلمة تقتضي وعاء مكان أو مكانة، ثم قال: أنبأ الله عز وجل بما في خبء أمره مما هو من وراء علم الملائكة بما أظهر من أمر آدم عليه السلام وبما وراء علم آدم بما أبدى من حال الشيطان باستزلاله لآدم حسن ظن من آدم بعباد الله مطلقاً حين قاسمهما على النصيحة، وفيه انتظام بوجه ما بتوقف الملائكة في أمر خلق آدم فحذرت الملائكة إلى الغاية، فجاء من وراء حذرهما حمد أظهره الله من آدم، وجاء من وراء حسن ظن آدم ذنب أظهره الله من الشيطان على سبيل سكن الجنة فرمى بهما عن سكنها بما أظهر له بما فيها من حب الشجرة التي اطلع عليها. ثم قال: وحكمة ذلك أي نسبة هذا الذنب إلى الشيطان بتسببه، إن الله عز وجل يعطي عباده الخير بواسطة وبلا واسطة ولا ينالهم شر إلا بواسطة نفس، كما وقع من الإباء للشيطان، فكانت خطيئته في ذات نفسه أو بواسطة شيطان كما كانت مخالفة آدم، فكانت خطيئته ليست من ذات نفسه وعارضةً عليه من قبل عدو تسبب له بأدنى مأمنه من زوجه التي هي من أدنى خلقه فمحت التوبة الذنب العارض لآدم وأثبت الإصرار الإباء النفساني للشيطان؛ وذكر الحق تعالى الإزلال منه باسمه الشيطان لا باسمه إبليس لما في معنى الشيطنة من البعد والسرعة التي تقبل التلافي ولما في معنى الإبلاس من قطع الرجاء، فكان في ذلك بشرى استدراك آدم بالتوبة- انتهى.
ولما بين أنه غرهما فضرهما بين إهباط الغارّ والمغرور وبين أنه أنعم على المغرور دون الغار مع ما سبق له من لزوم العبادة وطول التردد في الخدمة، وفي ذلك نفخيم للنعمة استعطافاً إلى الإخلاص في العبادة فقال عاطفاً على ما يرشد إليه السياق من نحو أن يقال فتداركناهما بالرحمة وتلافينا خطأهما بالعفو لكونه عارضاً منهما بسبب خارج، وأبّدنا تلافي الغار بشقائه لعصيانه بالضلال والإضلال عن عمد فكان مغضوباً عليه {وقلنا} أي له وللمغرور: {اهبطوا} وفي ذلك لطف لذريته بالتنفير من الخطأ والترهيب الشديد من جريرته والترغيب العظيم على تقدير الوقوع فيه في التوبة والهبوط.
قال الحرالي: سعى في درك والدرك مَا يكون نازلاً عن مستوى، فكأنه أمسك حقيقته- أي آدم- في حياطته تعالى وحفظه وتوفيقه لضراعته وبكائه وسر ما أودعه من أمر توبته؛ وأهبط صورته ليظهر في ذلك فرق ما بين هبوط آدم وهبوط إبليس على ما أظهر من ذلك سرعة عود آدم توبة وموتاً إلى محله من أنسه المعهود وقربه المألوف له- من ربه، وإنظار إبليس في الأرض مصراً منقطعاً عن مثل معاد آدم لما نال إبليس من اللعنة التي هي مقابل التوبة {بعضكم لبعض} البعض ما اقتطع من جملة وفيه ما في تلك الجملة، {عدو} من العداء أي المجاوزة عن حكم المسالمة التي هي أدنى ما بين المستقلين من حق المعاونة- انتهى. فالمعنى فليحذر كل واحد منكم عدوه باتباع الأوامر واجتناب النواهي.
قال الحرالي: وفيه إشعار بما تمادى من عدواء الشيطان على ذرء من ولد آدم حتى صاروا من حزبه، وفيه أيضاً بشرى لصالحي ولد آدم بما يسبونه من ذرء إبليس فيلحقون بهم بالإيمان والإسلام والتوبة فيهتدون بهداه من حيث عمّ بالعداوة، فاعتدى ذو الخير فصارت عدواه على أهل الشر خيراً، واعتدى ذو الشيطنة فصارت عدواه على أهل الخير شراً. {ولكم في الأرض مستقر} تكونون فيه، وهو من القرار وهو كون الشيء فيما له فيه تنام وظهور وعيش موافق؛ {ومتاع} تتمتعون به، والمتاع هو الانتفاع بالمنتفع به وقتاً منقطعاً يعرف نقصه بما هو أفضل منه، يعني ففيه إشعار بانقطاع الإمتاع بما في هذه الدنيا ونقص ما به الانتفاع عن محل ما كانا فيه، من حيث إن لفظ المتابع أطلق في لسان العرب على الجيفة التي هي متاع المضطر وأرزاق سباع الحيوان وكلابها، فكذلك الدنيا هي جيفة متع بها أهل الاضطرار بالهبوط من الجنة وجعلها حظ من لا خلاق له في الآخرة؛ {إلى حين} أي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي إبهام الحين إشعار باختلاف الآجال في ذرء الفريقين، فمنهم الذي يناله الأجل صغيراً، ومنهم الذي يناله كبيراً- انتهى.
ولما تسبب عن جزاء آدم عليه السلام بالإهباط الذي هو كفارة له أنه أُلهم الدعاء بما رحم به عبر عن ذلك بقوله: {فتلقى} أي فهبطوا فتلقى {آدم} بعد الهبوط، والتلقي ما يتقبله القلب باطناً وحياً، أو كالوحي أبطن من التلقن الذي يتلقنه لفظاً وعلماً ظاهراً أو كالظاهر- قاله الحرالي: {من ربه} أي المحسن إليه في كل حال {كلمات} أي ترضيه سبحانه بما أفهمه التعبير بالتلقي، وهي جمع كلمة؛ وهي دعاء دعا به ربه أو ثناء أثنى به عليه؛ وتطلق الكلمة أيضاً على إمضاء أمر الله من غير تسبيب حكمة ولا ترتيب حكم- قاله الحرالي ثم قال: في عطف الفاء في هذه الآية إشعار بما استند إليه التلقي من تنبيه قلب آدم وتوفيقه مما أثبته له إمساك حقيقته عند ربه، ويعاضد معناه رفع الكلمات وتلقيها آدم في إحدى القراءتين، فكأنه تلقى الكلمات بما في باطنه فتلقته الكلمات بما أقبل بها عليه فكان مستحقاً لها، فكانت متلقية له بما جمعت القراءتان من المعنى {فتاب} من التوب وهو رجوع بظاهر باطنه الإنابة وهو رجوع بعلم باطنه الأوبة وهو رجوع بتقوى قلب- انتهى.
{عليه} لذكره إياه بالكلمات مخلصاً في نيته، ثم علل بقوله: {إنه هو} أي خاصة {التواب} أي البليغ التوبة المكرر لها، ولما كان قد جعل على نفسه المقدس أن يتفضل على المحسن قال: {الرحيم} أي لمن أحسن الرجوع إليه وأهله لقربه.
قال الحرالي: وكان إقراره بلفظه أدباً وإذعاناً لقيام حجة الله على عباده بما أنبأ عنه من قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] الآية، وهذه توبة قلب وعمل لا ينقض مخصوص حال القلب منها ناقض وهي التوبة النصوح التي تبرئ من الذنب بتحقيق توحيد القلب وتوجب تكفير الخطايا الظاهرة التي لا أصل لها في القلب من حجاب دعوى في الأفعال وشرك في أمر الله، فبمقتضى ما في باطنه ظهر فيه اسمه الرحيم الذي هو من الرحمة وهو اختصاص فضله بالمؤمن، وبمقتضى ما ظهر عليه من الضراعة والإقرار ظهر فيه مقتضى اسمه التواب؛ فجمعت توبته الأمرين- انتهى.
ولما أعلموا بالعداوة اللازمة كان كأنه قيل: فما وجه الخلاص منها؟ فقيل: اتباع شرعنا المشروع للتوبة والرحمة فإنا {قلنا} كما تقدم {اهبطوا} ولما كان الهبوط الماضي يحتمل أن يكون من مكان من الجنة إلى أدنى منه ولم يخرجوا منها فكرره هنا للتأكيد تصويراً لشؤم المعصية وتبشيعاً لها قال: {منها} أي الجنة {جميعاً} أي لا يتخلف منكم أحد سواء كان ذلك قِران واحد أو على التعاقب، وعهدنا إليهم عند الهبوط إلى دار التكليف أنا نأتيهم بالهدى ليؤديهم إلى الجنة مرة أخرى واعدين من اتبع متوعدين من امتنع فقلنا: {فإما يأتينكم}، وقال الحرالي: مورد هذه الآية بغير عطف إشعار بأن ظاهرها افتتاح لم يتقدمه إيجاء بباطن كما تقدم في السابقة، وتكرر الإهباطان من حيث إن الأول إهباط لمعنى القرار في الدنيا والاغتذاء فيها وذرء الذرية وأعمال أمر العداوة التي استحكمت بين الخلقين من آدم وإبليس، وهذا الإهباط الثاني إهباط عن مكانة الرتبة الآمرية الدينية التي كانت خفية في أمر آدم ظاهرة في أمر إبليس، وفي قوله: {جميعاً} إشعار بكثرة ذرء الخلقين وكثرة الاحداث في أمر الديانة من النقلين- انتهى.
وخص في إبراز الضمير بمحض الإفراد من غير إيراد بمظهر العظمة إبعاداً عن الوهم فقال: {مني هدى} أي بالكتب والرسل، ولما كان الهدى الذي هو البيان لا يستلزم الاهتداء قال: {فمن تبع} أي أدنى اتباع يعتد به، ولذلك اكتفى في جزائه بنفي الخوف الذي قد يكون عن توبة من ضلال بخلاف ما في طه كما يأتي إن شاء الله تعالى. والتبع السعي أثر عَلَم الهدى- قاله الحرالي. {هداي} أي المنقول أو المعقول، فالثاني أعم من الأول. لأنه أعم من أن يكون منقولاً عن الرسل أو معقولاً بالقياس على المنقول عنهم، أو بمحض العقل كما وقع لورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وأضرابهما المشار إليهم بالقليل في قوله تعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلاً} [النساء: 83] قال العارف شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي في كتابه رشف النصائح الإيمانية: فالعفل حجة الله الباطنة والقرآن حجة الله الظاهرة. قال الحرالي: وجاء {هداي} شائعاً ليعم رفع الخوف والحزن من تمسك بحق ما من الحق الجامع، وأدناه من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فيما بينه وبين الحق وفيما بينه وبين الخلق- انتهى.
ولما كان الخوف أشد لأنه يزداد بمر الزمان، والحزن يحفّ، قدّمه فقال: {فلا خوف عليهم} أي من شيء آت فإن الخوف اضطراب النفس من توقع فعل ضارّ- قاله الحرالي. {ولا هم يحزنون} أي على شيء فات، لأنهم ينجون من النار ويدخلون الجنة والحزن كما قال الحرالي: توجع القلب لأجل نازح قد كان في الوصلة به رَوح، والقرب منه راحة، وجاء في الحزن بلفظ {هم} لاستبطانه، وبالفعل لأنه باد من باطن تفكرهم في فائتهم، وجاء نفي الخوف منعزلاً عن فعلهم لأنه من خوف باد عليهم من غيرهم- انتهى.
ولما بشر المؤمنين الذين اتبعوا الهدى أتبعه إنذار الكافرين الذين نابذوه بقوله: {والذين كفروا} قال الحرالي: هذا من أسوأ الكفر لأنه كفر بالآيات التي جعلها الله عز وجل علماً على غيب عهده وهي ما تدركه جميع الحواس من السماء والأرض وما بينهما كما قال تعالى: {ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة} [الشورى: 29] لأن الحق تعالى أظهر الكون كتابة دالة على أمره وجعل في العقل نوراً يُقرأ به كتابه، فمن لا نور له فهو من أصحاب النار، فهو إما تابع هدى بنور العقل وتنبيه الإيمان، وإما صاحب نار، فقال: {وكذبوا بآياتنا} لأنه لما كان من الذين كفروا بكتاب الخلق من تقبّل الإيمان بتنزيل الأمر اختصت كلمة العذاب بالذين تأكد كفرهم بالآيات المرئية بتكذيبهم بالآيات المنزلة، فكفروا بما رأوا فكانوا عمياً، وكذبوا بما سمعوا فكانوا صُمّاً- انتهى.
والمعنى أنهم جمعوا بالكفر والتكذيب بين إنكار القلوب والألسنة {أولئك} أي البُعَداء البغضاء {أصحاب النار} وبين اختصاصهم بالخلود بقوله: {هم فيها خالدون} فعليهم الخوف الدائم لما يأتي من أنكالها والحزن الدائم على فوات الجنة، فالآية من الاحتباك، انتفاء الخوف والحزن من الأول دال على وجودهما في الثاني، ووجود النار في الثاني دال على انتفائها ووجود الجنة في الأول، وقد علم من ذلك مع قوله: {مستقر ومتاع إلى حين} أنه لا بد من رجوعهم إلى تلك الدار وكيف تكون منازلهم فيها! فكأنه جواب سائل قال: هل بعد هذا الهبوط من صعود؟ قال الحرالي: وقوله: {هم} فيه إشعار بإشراب العذاب بواطنهم وبلاغه إلى أنفسهم بعذاب الغم والحزن واليأس وغير ذلك من إحراق النار بواطنهم، وفيه إشعار بكونهم فيها في الوقت الحاضر من حيث لا يشعرون «الذي يشرب في آنية الذهب إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» والنار أقرب إلى أحدهم من شراك نعله. فهم فيها خالدون وإن لم يحسوا في الدنيا بحقيقتها، كما أن المهتدين في جنة في الدنيا وإن لم يشهدوا عيانها، فكل خالد فيما هو فيه في الدنيا غيباً وفي الآخرة عياناً وفي القبر عرضاً {لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين} [التكاثر: 6، 7] {النار يعرضون عليها غدواً وعشياً} [غافر: 46] وهنا انتهى خطاب الفرقان المخصوص بدعوة العرب الذين هم رأس أهل الدعوة المحمدية صلى الله عليه وسلم: «الناس كلهم تبع لقريش، مؤمنهم لمؤمنهم، وكافرهم لكافرهم» انتهى. يعني فهم المرادون بهذا بالقصد الأول، وهو شامل لغيرهم، ومراد به ذلك الغير بالقصد الثاني، وهنا آخر الآيات الخاصة بالنعم العامة لجميع بني آدم دالة على التوحيد من حيث إنها حادثة فلها محدث، وعلى النبوة من حيث إنه صلى الله عليه وسلم أخبر عنها موافقاً لما في التوراة والإنجيل من غير تعلم، وعلى المعاد من حيث إن من قدر على خلقها ابتداء قدر على إعادتها- ذكره الأصفهاني عن الإمام. وفي الآية إشارة إلى الكتاب الذي هو هدى للمتقين المشتمل على الأحرف السبعة التي من أقبل على حرف منها حق الإقبال كفاه، ومن اشتغل عنها بالمتاع الأدنى خسر دنياه وأخراه.
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في التمهيد لشرط مثال القراءة لحروفه السبعة وعلمها والعمل بها: اعلم أن الله سبحانه خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ورزقه نوراً من نوره، فلأنه خلقه بيده كان في أحسن تقويم خلقاً، ولأنه نفخ فيه من روحه كان أكمل حياة قبضاً وبسطاً، ولأنه رزقه نوراً من نوره كان أصفى عقلاً وأخلص لباً وأفصح نطقاً وأعرب بياناً جمعاً وفصلاً، وأطلعه على ما كتب من حروف مخلوقاته إدراكاً وحساً، وعقّله ما أقام من أمره فهماً وعلماً، ونبهه على ما أودعه في ذاته عرفاناً ووجداً؛ ثم جعل له فيما سخر له من خلقه متاعاً وأنساً فأناسه وردده من بين إقبال وإدبار وقبول وإعراض، فمن شغل بالاستمتاع الأدنى عن الاطلاع الأعلى كان سفيهاً، ومن شغله الاطلاع الأعلى عن الاستمتاع الأدنى كان حنيفاً {الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري} [الكهف: 101] {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} [البقرة: 130] {إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً} [النحل: 120]. ولما كان متاع الخلق في الأرض إلى حين وشغل أكثرهم أكلهم وتمتعهم وألهاهم أملهم عن حظهم من الحنيفية بما أوتي العقل من التبليغ عن الله نظراً واعتباراً اصطفى الله سبحانه من الحنفاء منبهين على النظر الذي اشتغل عنه المعرضون وأنف منه واستكبر عنه المدبرون، وأكدوا تنبيههم بما أسمعوهم من نبأ ما وراء يوم الدنيا من أمر الله في اليوم الآخر وما تتمادى إليه أيام الله، وذكروهم بما مضى من أيام الله، وأنزل الله سبحانه معهم كتباً يتلونها عليهم ويبينونها لهم علماً وعملاً وحالاً، فقبل ما جاؤوا به وصدقه واستبشر به الحنيفيون وأنذر به المدبرون والمعرضون، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، آمن من تنبه للنظر والاعتبار وألقى السمع وهو شهيد، وكفر من آثر متاعه بالعاجلة التي تراها الأعين على وعد الله ووعيده في الآجلة التي إنما يعيها القلب وتسمعها الأذن، وكما شغل المدعوين إلى الإسلام كفرهم ودنياهم كذلك شغل المولّدين في الإسلام غفلتهم ودنياهم ولعبهم في صباهم ولهوهم في شبابهم وتكاثرهم في الأموال في اكتهالهم وتكاثرهم في الأولاد في شَياخهم، فاشترك المدعو إلى الإسلام والمولد فيه الغافل في عدم الإقبال والقبول في ترك الاهتمام في الآجلة واختصارهما على الاهتمام بالعاجلة، وكلاهما جعل القرآن وراء ظهره المدعو لفظاً وعلماً والمولد الغافل علماً وعملاً، فلم يسمعه المدعو ولم يفهمه الغافل فجعله بالحقيقة وراء ظهره، ومن جعل القرآن خلفه ساقه إلى النار، وإنما جعله أمامه من قرأه علماً وحالاً وعملاً، ومن جعل القرآن أمامه قاده إلى الجنة؛ ولما قامت الحجة عليهم بقراءته إذا لم يجاوز حناجرهم كانوا أشد من الكفار عذاباً في النار- أكثر منافقي أمتي قراؤها، {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} [النساء: 145] فإذاً لا بد في قراءة القرآن من تجديد إقبال وتهيُّؤ لقبول وتحقيق تقوى لأنه إنما هو هدى للمتقين، وإجماع على الاهتمام، وكما أن أمور الدنيا لا تحصل لأهلها إلا على قدر عزائمهم واهتمامهم فأحرى أن لا يحصل أمر الأخرى إلا بأشد عزيمة وأجمع اهتمام، فلا يقرأ القرآن من لم يقبل عليه بكلية ظاهره ويجمع اهتمامه له بكلية باطنه {وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} [الأعراف: 145] فخذها بقوة {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} [مريم: 13] {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك} [هود: 112] فشرط منال قراءته اهتمام القلب بتفهمه وإقبال الحس على استماعه وتدبره؛ ولكل حرف شرط يخصه- انتهى.
ولما أقام سبحانه دلائل التوحيد والنبوة والمعاد أولاً وعقبها بذكر الإنعامات العامة داعياً للناس عامة لا سيما بني إسماعيل العرب الذين هم قوم الداعي صلى الله عليه وسلم وكان أحق من دُعِي بعد الأقارب وأولاه بالتقدم أهل العلم الذين كانوا على حق فزاغوا عنه ولا سيما إن كانت لهم قرابة لأنهم جديرون بالمبادرة إلى الإجابة بأدنى بيان وأيسر تذكير، فإن رجعوا اقتدى بهم الجاهل فسهل أمره وانحسم شره، وإن لم يرجعوا طال جدالهم فبان للجاهل ضلالهم فكان جديراً بالرجوع والكف عن غيه والنزوع، وعرفت من تمادي الكلام معهم الأحكام وبان الحلال والحرام؛ فلذلك لما فرغ من دعوة العرب الجامعة لغيرهم باختصار وختم بأن وعد في اتباع الهدى وتوعد شرع سبحانه يخص العلماء من المنافقين بالذكر وهم من كان أظهر الإسلام من أهل الكتاب على وجه استلزم عموم المصارحين منهم بالكفر، إذ كانوا من أعظم من خُص بإتيان ما أشار إليه من الهدى والبيان بما فيه الشفاء، وكان كتابهم المشتمل على الهدى من أعظم الكتب وأشهرها وأجمعها فقصّ عليهم ما مثله يليّن الحديد ويخشع الجلاميد فقال تعالى مذكراً لهم بنعمه الخاصة بهم: {يا بني إسرائيل} ويجوز أن تقرر المناسبات من أول السورة على وجه آخر فيقال: لما كان الكفار قسمين: قسم محض كفره، وقسم شابه بنفاق وخداع، وكان الماحض قسمين: قسم لا علم له من جهة كتاب سبق وهم مشركو العرب، وقسم له كتاب يعلم الحق منه، ذكر تعالى قسم الماحض بما يعم قسميه العالم والجاهل فقال: {إن الذين كفروا سواء عليهم} إلى آخره. ثم أتبعه قسم المنافق، لأنه أهم بسبب شدة الاختلاط بالمؤمنين وإظهارهم أنهم منهم ليكونوا من خداعهم على حذر، فقال: {ومن الناس من يقول آمنا} إلى آخره؛ ولما فرغ من ذلك ومما استتبعه من الأمر بالوحدانية وإقامة دلائلها وإفاضة فضائلها، ومن التعجيب ممن كفر مع قيام الدلائل، والتخويف من تلك الغوائل، والاستعطاف بذكر النعم، شرع في ذكر قسم من الماحض هو كالمنافق في أنه يعرف الحق ويخفيه فالمنافق ألف الكفر ثم أقلع عنه وأظهر التلبس بالإسلام واستمر على الكفر باطناً، وهذا القسم كان على الإيمان بهذا النبي قبل دعوته، فلما دعاهم محوا الإيمان الذي كانوا متلبسين به وأظهروا الكفر واستمرت حالتهم على إظهار الكفر وإخفاء المعرفة التي هي مبدأ الإيمان، فحالهم كما ترى أشبه شيء بحال المنافقين، ولهذا تراهم مقرونين بهم في كثير من القرآن، وأخرهم لطول قصتهم وما فيها من دلائل النبوة وأعلام الرسالة بما أبدى مما أخفوه من دقائق علومهم، فإن مجادلة العالم ترسل في ميادين العلم أفراس الأفكار فتُسرع في أقطار الأوطار حتى تصير كالأطيار وتأتي ببدائع الأسرار، ولقد نشر سبحانه في غضون مجادلتهم وغضون محاورتهم ومقاولتهم من الجمل الجامعة في شرائع الدين التي فيها بغية المهتدين ما أقام البرهان على أنه هدى للعالمين؛ هذا إجمال الأمر، وفي تفاصيله كما سترى من بدائع الوصف أمور تجل عن الوصف، تذاق بحسن التعليم ويشفى عيّ جاهلها بلطيف التكليم- والله ولي التوفيق والهادي إلى أقوم طريق.
وقال الحرالي: ثم أقبل الخطاب على بني إسرائيل منتظماً بابتداء خطاب العرب من قوله: {يا أيها الناس} وكذلك انتظام القرآن إنما ينتظم رأس الخطاب فيه برأس خطاب آخر يناسبه في جملة معناه وينتظم تفصيله بتفصيله، فكان أول وأولى من خوطب بعد العرب الذين هم ختام بنو إسرائيل الذين هم ابتداء بما هم أول من أنزل عليهم الكتاب الأول من التوراة التي افتتح الله بها كتبه تلو صحفه وألواحه. ثم قال: لما انتظم إقبال الخطاب على العرب التي لم يتقدم لها هدى بما تقدمه من الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم انتظم بخطاب العرب خطاب بني إسرائيل بما تقدم لها من هدى في وقتها {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} [المائدة: 44] وبما عهد إليها من تضاعف الهدى بما تقدم لها في ارتقائه من كمال الهدى بمحمد صلى الله عليه وسلم وبهذا القرآن، فكان لذلك الأولى مبادرتهم إليه حتى يهتدي بهم العرب ليكونوا أول مؤمن بما عندهم من علمه السابق- انتهى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8